لا شك أن قضية الدعوة إلى الله ودينه هي قضية كل مسلم ينتمي إلى الإسلام ولمحض كونه مسلما, وتزكيته هاته لن تستقيم إلا بتبني هذه القضية بشكل تصير معه حياته ممزوجة بحمل هذا الهم الشريف، فإذا سأل عن طعامه وشرابه فلن ينس أو يتناس أن يوجه سهام السؤال إلى نحر نفسه عمّا قدمه لهذا الدين دين الله تبارك وتعالى.
الوسطية والتفريط
لكن العجز يصنع في عقول العاجزين “أديانا” تتناسب مع ما هم فيه من ذل وهوان، وهم ولا شك في ذلك يعتقدون أن مهادنتهم للباطل ستجعل لهم عند الله منزلة وغفرانا فيمضون في اعتساف تجارب دعوية مشوبة بالجهل والنقص والضعف والهوى، وهم كل مرة يقنعون الناس وأنفسهم بأن الدين دين وسطية واعتدال، وما شاذ الدين أحد إلا غلبه.
وهذا محمد عليه الصلاة والسلام بعثه الله مبشرا لا منفرا، رحيما لا فضا ولا غليظا, وهم من خلال عملية الإقناع يسعون إلى تبرير فتاواهم الوافدة على الأغيار عبر الأثير وعلى الوثير.
ولأن الرفق ما كان في شيء إلى زانه وما نزع من شيء إلا شانه صارت المصلحة صنما يعبد وأصبح المفتي يحمل غرانيق يوزعها وبسخاء على كل حريص على رخصه أو شبهة أو عرف مذموم, وهكذا ومن خلال ما راكمته فعال القوم خرج علينا من جلس على “جمع بصيرة” ليظهر للعالمين طوباوية القرآن عندما يجيء التفسير على شاكلة ما هو حداثي, وليؤسس لمفهوم المدينة الفاضلة التي تجمع بالود والوئام بين أبناء حام وسام، وليؤخر وببريق الكلمة ولمعانها أن الإسلام من السلم والسلام، وأن الغضب للدين أو العرض أو الأرض نعرة جاهلية لا مكان لها بين أسوار هذه المدينة الفاضلة على حد تصوره.
ومرة وأنا أتابع واحدا من هذا الصنف متابعة من قال في حقه الناظم: “تعلمت الشر لا لشر ولكن لتوقيه” هاتفه أحد الكيّالين لِفُولِه وسأله عن رجل ذمي عرض عليه الإسلام فنطق بالشهادة وعند التفصيل معه في الأركان المتبقية أشار بالإيجاب، إلا أنه وكما يحكي الكيَّال شق عليه أمر الخمس صلوات، وأنه بالكاد يستطيع أن يَقبل بصلاتين في اليوم، فأجاب “الداعيةُ” المستفتيَّ: أنه لا بأس بقبول الرجل في دائرة الإسلام، أملا ورجاء أن تكون حلاوة الإيمان وطلاوة المؤمنين قادرة على الدفع به لإكمال ثمرات اليوم والليلة.
والحقيقة أنني لم أستغرب وقتها، إذ الجلسة أمام التلفاز وأمام صاحب العمامة أسستها تأسيا بسؤال حذيفة رضي الله عنه عن الشر مخافة أن يدركه من جهة، ومن جهة أخرى فأنا أعلم تمام العلم أن “الحبيب” هذا من أصحاب المذهب القائل “إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور” و”وما ضربُ الطبل ونفخ المزمار إلا قربى في حق العزيز الغفار وسنة من هدي النبي المختار!!؟”.
ورغم أن أباطيل القوم كثيرة، ورغم أنها جاءت سافرة متبرجة منسلخة عن لباس التقوى، فلا يمنعنا ذلك من أن نفتح القوس لا لنغتاب أو نجادل جدال “بزنطة” انتصارا للذات، أو نيل أريكة وثيرة في قلوب الناس، أو طلبا في حظوة من نفوس العوام، إنما نفتح القوس لنرمي فإذا أصبنا فذلك توفيق الله، وإذا أخطأنا فذلك مبلغنا من العلم، وذلك حظ النفس والشيطان.
الوسطية والإفراط
نعم إن دين الإسلام دين وسطية واعتدال، لكن هذه الصفة لم تكن ولن تكون بفضل الله مرادفا لأنصاف الحلول والمساومة، والإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، وإيثار مقتضيات الطبع ومشتهيات النفس وتفصيل الأحكام على مقاس الرسوم والذوات، فمن كان صاحب ضيعات وسيارة ومغاني فصلنا له من ثوب العبادة ما يناسب وضعه، ومن كان بخلاف ذلك أجزنا له خلاف ذلك, كما أن هذه الصفة لم تكن ولن تكون ترجمة لما يروج له خوارج آخر الزمن أبناء بن الملجم وحفدة ذي الخويصرة الذين اتخذوا من الله عهدا تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا فقالوا لن يدخل الجنة إلا من هجر المساجد وكفر العباد وفجر الأجساد كذلك قال الذين من قبلهم تشابهت قلوبهم فلله المشتكى وإليه الأمر كله علانيته وسره.
إننا حينما ننعت الإسلام بالاعتدال، فإننا ندرك أن هذا النعت شامل لعموم الدين ودقائق خصوصياته دون إلغاء أو إقصاء أو تورية، فدين الإسلام نزل من السماء دين وسطية وهذه الصفة ليست لقبا كسبيا يجوز لنا حق التصرف في مضمونه، أو الجور بمفهومه، وبعيدا عن أي إفراط أو تفريط، فإن المرء لن يجد لِوَسَطية الدين واعتداله ترجمة أو تصويرا أحسن ولا أبلغ ممَّا جاء على لسان الصحابي الجليل عبادة بن الصامت حين قال: ” بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن نرى كفرا بواحا عندنا من الله فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم”، انتهى كلامه رضي الله عنه.
ولأن الحق حق فإننا لن نتوانى طرفة عين أو نبضة قلب، لنقول أن محمدا عليه الصلاة والسلام بعث مبشرا لا منفرا لكننا لن نخرجها للوجود كالذي صلى نافلة في وقت النهي ولما عوتب على ذلك قال إن الله لا يعذب عن ركوع ولا يغضب من سجود أبدا!!
وبالرجوع إلى سيرة سيد الخلق ومنذ أن بشر بـ”اِقرأ” وأرسل بـ”يا أيها المدثر قم” لن يجد الباحثون ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا أن محمدا عليه الصلاة والسلام ساوم الناس وهو ينشر رسالته أو قبل بأنصاف الحلول أو خندق نفسه وأحاطها بلباس المصلحة المرجوحة، بل أعلنها أول يوم دعوة صفية نقية منزهة عن شوائب الجاهلية, بل لقد خير فاختار الصدع بالحق والصبر على أذى الناس ولو شاء عليه الصلاة والسلام وهو الصادق الأمين ذو النسب الرفيع المنزه عن سفاح الجاهلية، لاختار أن يخضعهم لسلطان بشريته ثم يخضعهم بعد ذلك إلى سلطان رسالته سلطان “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، لقد قبل عليه الصلاة بالعسر حتى منّ الله عليه باليُسر وصبر بل رضي بأذى صناديد الكفر حتى أخرج الله من أصلابهم جيل التوحيد.
لا غلو في امتثال الشرع في النصيحة
إن على الداعية وهو يمارس قدسية النصيحة أن يُرجع المرة تلو الأخرى إلى سيرة سيد المرسلين ليستنبط منها المنهج القويم وليعلم وليتعلم أن هذه الوظيفة قد حفها المرسِل تبارك وتعالى بضوابط مَن تخلف عنها أو تخلفت عنه هلك أو أهلك.
ولعل من أبرز هذه الضوابط أن يدرك الناصح أن قلوب الخلق ليست في ملكية سلطان حنجرتِه ولسانه، إنما هي بيد خالقها يقلبها حيث يشاء وأن يدرك أن وظيفة النصح حددها الشارع الحكيم في تبيين الرشد وتمييزه عن الغيِّ.
كما أن عليه -وهو يمارس وظيفة البيان- ألا يحيد عن سبيل الله وألا يستعيض عنه بسبل الهوى، مبررا هذا الاعتداء بحرصه على تقديم الخير للناس وللإسلام أو اعتقاده وإحساسه أنه مهدد بالانقطاع عن مزاولة هذا التشريف، وأنه وهو يقدم الحق كما نزل من السماء، يخاف أن يُحال بينه وبين الناس فيدفعه ذلك كله إلى نهج سياسة المقص وإدغام حروف الحق وتقديم الحشف مع تطفيف الكيل ولأن الغاية شريفة فكل الطرق المفضية لها معبدة بالمسك والزعفران.
إن الحق حينما يواجه بالاستكبار والصدود، لا نملك أن نراجعه لننقص من أطراف أرضه ونلبسه ثوب السراب لنقدمه لظمآن ماء حتى يدخل الناس أفواجا أفواجا.
إن محنة الأمة واعتدال هذا الدين وطيبة هذا الصادق المصدوق، لا ولن تُشَرْعِن ذلك الإحساس الذي يخوض من خلاله بعض الدعاة قضية النصيحة واستقطاب الناس إلى حظيرة الإسلام، إحساس بات يملأ تجاويف الكثير ممن يحملون عبء هذا الحمل الشريف، ذلك هو إحساسهم بأن الإسلام بات يعيش حالة إفلاس عددية، فيحملهم هذا الحمل الاعتقاد إلى مواجهة الغني بغير زكاة وصاحب الباءة بغير حج ومرهف الحس بغير تكاليف شاقة، وقس على ذلك, إننا وإن كنا نحسن الظن في صدق النوايا إلا أننا لا نملك إلا أن نسحب بساط أحقية التصرف وأنه مهما تعددت الأسباب وكبرت في عين أصحابها فإن الحكمة اقتضت ألا نجور على ملك سليمان عليه السلام لأن الشياطين كفرت بل علينا أن نردد وبثبات وعلى الدوام ما عَلِمْناه من ربنا ” وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ”.
كما أننا لا نملك إلا أن نواجه جيش أبناء بن الملجم وحفدة ذي الخويصرة بحقيقة مفادها: أنكم لا تملكون مفاتيح الغيب ولا تعلمون خواتيم الخلق وأن الذي أسجد سحرة فرعون ورزقهم الثبات وهو يواجهون وعيده قادر بحكمته ورحمانيته على أن يُحوِّل العصاة الفجرة إلى عباد بررة، وأن يهدي حفدة إبراهيم وأبناء محمد عليهما الصلاة والسلام، ولنتذكر وعلى الدوام وقبل أن نقرر ونحكم ما علمه لنا معلم البشرية حينما قال: “من قال هلك الناس فهو أهلكهم”.