..أنتج الإسلام العظيم رجالا من أهل العلم والتقوى، حملوا مشعله وخدموه بإخلاص شديد وحماس منقطع النظير، كسيبويه والبخاري وغيرهما.. فينبغي تعويد المتعلم من سنواته الأولى حب الانتماء الحقيقي إلى الأمة.. فكرا وعملا ولغة وحضارة؛ ولا يكون ذلك إلا بلفت انتباههم إلى ماضيهم التليد، وفتح عقولهم على خلاصة تراث أسلافهم العتيد..
اتفق عقلاء العالم قديما وحديثا على أن ازدهار الأمم وتفوقها ورقيها رهين بجودة تعليمها ونجاعته وقدرته على مواكبة مستجدات العصر العلمية والاقتصادية والصناعية؛ كما أجمعوا على ارتباط تقدم الأمة باستيعابها لتراثها وضبطها له وافتخارها به، ثم تطلعها لمنجزات الأقوام المجاورين لها في الجوانب التقنية والصناعية العلمية.
وذلك كله لابد له من تمثل عميق للغة الأم؛ التي تعد مفتاح الانطلاقة الناجحة في كل ميادين المعرفة والعلم. بيد أن تأملنا لواقعنا الحديث من فترة ما بعد الاحتلال إلى يوم الناس هذا يُظهر بجلاء مكامن الخلل ومواضع الزلل في منظومتنا التعليمية؛ وأول ذلك الإهمالُ الشديد الغريب للغتنا العربية الشريفة العريقة الضاربة في جذور التاريخ من قِبَل المتعلمين وكثير من المعلمين، وحتى كبار المسؤولين وواضعي المقررات المدرسية.
فقد انصبت جهود الوزارة منذ عقود على تعزيز الانفتاح على الآخر بلغاته وثقافته، وكان ذلك -في ظنهم- من أهم الأهداف المنشودة؛ وهو أمر مقبول يفرض نفسه شئنا أم أبينا، إلا أن هؤلاء قد غفلوا أو تغافلوا عن أن الانفتاح على التراث العربي الإسلامي بجميع فروعه وتخصصاته وما ينتج عن ذلك من امتلاك للغة القرآن الكريم وفتح للعقول لتفكر وتبدع وتواصل مسيرة الأجداد في خدمة الإنسانية… ذلك الانفتاح كان ينبغي أن يكون أولى الأولويات وأهم الأبجديات للنهوض بمنظومتنا التعليمية والدفع بها إلى الأمام.
وكيف لا ينبهر التلاميذ ويؤسرون بلغات الأعاجم وهم يرون بعض المستجوَبين في أخبار اللغة العربية يُسألون فيجيبون بلغة ماما فرنسا بكل صفاقة وقلة حياء؟ ولو كانت نشرة الفرنسية لكان أمرا طبيعيا؛ لذلك فأغلب تلاميذنا -إلا العاقل الفاهم- يعجبون بثقافة الآخر ولغاته، ويلوكون بعض عباراتها المعروفة للجميع داخل المؤسسات وخارجها، ظنا منهم أن ذلك دليل تمدن وتحضر وتقدم، وهم في الآن نفسه لا يحسنون كتابة جملة عربية سليمة أو التكلم بها لدقيقة واحدة، بل لا يحسنون الكتابة ولا التكلم بتلك اللغات الأجنبية التي يفتخرون بحفظ جمل منها كالتحية والاستقبال واسم الكتاب والقلم وغيرها قليل.
وأمثلة تذمر معلمي اللغات الأجنبية من ضعف مردودية التلاميذ وقلة تجاوبهم وفهمهم لها وافرة يطول ذكرها، مع أن الفرنسية ترافق المتعلم من بداياته الأولى في الرياض إلى أن تصبح عقبةً أمامه لإتمام دراساته الجامعية في التخصصات العلمية المتنوعة، فكم من تلميذ له مستقبل زاهر كان سيبدع في تخصصه، اعترضه ضعفُ تكوينه في اللغة الأجنبية فمنعه من إتمام دراسته فيما يحب من رياضيات وفيزياء وهلم جرا.
ولو طبق مشروع تعريب التعليم في الجامعات اقتداء ببعض الدول العربية بشكل دقيق كامل لفُتح الباب واسعا أمام محاولة التفوق والابتكار؛ إذ إن التفكير والفهم وتمثل العلوم باللغة الأم يخرج طلبة علم أذكياء مخلصين لهويتهم ووطنهم، يربطون بين ماضيهم المجيد وبين حاضرهم الجديد ويستفيدون من كلا المرحلتين.
على خلاف الرؤية الأحادية التي يسير عليها تعليمنا الحالي، المضخمة من شأن منجزات الآخر دون وجود ما يدل على تحقق ذلك الانبهار فيما يخص الجوانب الإيجابية منه كالتصنيع وتشجيع براءات الاختراع ودعم النوابغ والبحث العلمي والمعرفي… والمقزمة من شأن منجزات الآباء السالفين، الذين أمدوا الغرب بآليات ووسائل التقدم والتحضر.
ولا يفهم من هذا التأكيد على التمسك القوي باللغة الأصيلة تزهيدُ الناس في اللغات الأخرى أو تقبيح صورتها في نفوسهم، فمن تعلم لغة قوم أمن مكرهم، والصحابة الكرام تعلموا العبرية لكشف تلبيس اليهود بأمر من الرسول عليه الصلاة والسلام والسريانية كذلك، ومن العلماء من أتقن لغات عديدة للدعوة إلى الله كالعلامة تقي الدين الهلالي رحمة الله عليه، وإنما الكلام على ضرورة امتلاك اللغة العربية قراءة وفهما وكتابة وتعمقا وتعظيما في النفوس واعتزازا في المنتديات والمحافل، ثم تعلم باقي اللغات المهمة إذا دعت الضرورة إلى ذلك.
ولا ينبغي التوسع في تعليم الأبناء لغات الأجانب إلا بعد تجاوزهم سن العاشرة وضبطهم للغتهم العربية؛ إذ الأصل الذي يجب أن يدركه التلاميذُ وكل مسلم هو أن تعلم العربية واجب محتم وتعلم لغة أجنبية فرضُ كفاية، وليس العكس الحاصل في واقعنا المؤسف، حيث سمعنا من بعض أساتذتنا أن البحث الذي يخلو من اعتماد كتاب غربي لا يُحسب بحثا، وبعضهم يقول: إن الأمي في عصرنا هو من لا يمتلك لغتين أجنبيتين على الأقل، ومن ثمة فإن العالم اللغوي البلاغي الفقيه الذي قضى عمره في خدمة شرعه ولغته جاهل أمي حسب رؤية كثير من الباحثين المعاصرين ؛ لأنه لا يتقن الفرنسية أو لا يفهم حروفها كما يجب، وغيرها من اللغات الغربية.
لقد نقل ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم عن الإمام مالك رحمهما الله أنه قال: “من تكلم في مسجدنا بغير العربية أُخرجَ منه”، وكان من تلاميذه أقوام من الفرس وغيرهم من الأمم الأخرى، ولكل منهم لسانه الأصلي الذي يعتز به، ورغم ذلك لم يتوانَ مالكٌ عليه الرحمات عن تأكيد اللُّحمة القوية بين العربية والشرع، في إشارة إلى أن من أسلم ورغب في التعلم وفهم الشرع فيجب عليه الانتماء إليه لغة وعقيدة وسلوكا وافتخارا.
وهو ما حصل حقا؛ حيث أنتج الإسلام العظيم رجالا من أهل العلم والتقوى، حملوا مشعله وخدموه بإخلاص شديد وحماس منقطع النظير، كسيبويه والبخاري وغيرهما كثير، فينبغي تعويد المتعلم من سنواته الأولى حب الانتماء الحقيقي إلى الأمة الإسلامية، فكرا وعملا ولغة وحضارة؛ ولا يكون ذلك إلا بلفت انتباههم إلى ماضيهم التليد، وفتح عقولهم على خلاصة تراث أسلافهم العتيد، بسرد قصص المجتهدين في طلب العلم وسير العلماء المبرزين في شتى الفنون وتفانيهم في ذلك، وخدمتهم للإنسانية وريادتهم لها قرونا طويلة، إلى أن أطل علينا الاستخراب الظالم بقرونه، فكان ما كان…
ولو علمنا أولادنا كلام السلف في هذا الباب وجعلنا للدروس مداخلَ نظريةً في جميع المواد تحفز النفوس وتوقظ الهمم، لحصل المقصود بإذن الله وتوفيقه، ومن ذلك ما رواه أبو هلال العسكري في كتابه “المعجم في بقية الأشياء” بسنده إلى عطاء بن أبي رباح أنه قال: “دخلت على عمر يوما وعليَّ ثيابٌ جددٌ فقال: إن أول مروءة الإنسان نقاءُ ثيابه، ثم إصلاح لسانه، ثم إصلاح معيشته، ثم التفقه في دين الله، والتحبب إلى عباد الله، من رزقهن فقد رُزِق خير الدنيا والآخرة” (ص:34 بتحقيق حفيظ شلبي وإبراهيم الإبياري).
يُتبع إن شاء الله