القـلـــب والمحـبـــة طارق برغاني

المحبة إحساس ود ورقة يلقيه الله تعالى في قلوب العباد، وهو شعور يقوي روابط الألفة ويذكي بواعث الرحمة والموادة بين المؤمنين تنتفي عمن سواهم ممن حادَّ الله ورسوله، “لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” المجادلة:22، حديثنا اليوم بإذن الله تعالى عن المحبة وتجلياتها بين العبد وربه وبين العبد وأخيه وبين العبد والمصطفى صلى الله عليه وسلم، ومكمن هذه المحبة ومستودعها القلب:
محبة بين العبد وربه:
وهي أرقى مراتب التقرب إلى الله وابتغاء وجهه ورجاء رحمته واتقاء غضبه، وهي محبة متبادلة بين العبد وربه، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” المائدة:54، متى تحققت شروطها وتوفرت أسبابها، ومنها الجهاد في سبيل الله تعالى وخفض الجناح للمؤمنين، والعزة على الكافرين كما تقدم في الآية، ومنها كذلك الإكثار من النوافل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يزالُ عبدي يتقَرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحبَّهُ، فإذا أحببتُهُ كنتُ سمعَهُ الذي يسمَعُ بهِ، وبصره الذي يُبصِرُ بهِ” مجموع الفتاوى لابن تيمية:10/212.
ومن آثارها وثمراتها وضع القبول للعبد في الأرض ومحبة أهل السماء له، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ إذا أحبَّ عبدًا، دعا جبريلَ فقال: إنِّي أحبُّ فلانًا فأحِبَّه. قال فيُحبُّه جبريلُ. ثمَّ يُنادي في السَّماءِ فيقولُ: إنَّ اللهَ يُحبُّ فلانًا فأحِبُّوه. فيُحبُّه أهلُ السَّماءِ. قال ثمَّ يُوضعُ له القَبولُ في الأرضِ. وإذا أبغض عبدًا دعا جبريلَ فيقولُ: إنِّي أُبغِضُ فلانًا فأبغِضْه. قال فيُبغضُه جبريلُ. ثمَّ يُنادي في أهلِ السَّماءِ: إنَّ اللهَ يُبغِضُ فلانًا فأبغِضوه. قال فيُبغِضونه. ثمَّ تُوضعُ له البغضاءُ في الأرضِ” مسلم:2637.
ولعل من بين أجمل ما قيل في ارتباط المحبة بالقلب وتعلق قلب العبد المحب بالله تعالى، ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله حين قال: “…إذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب، أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى، لا يزال سعي المحب صاعدا إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه…” مدارج السالكين:3/9.
محبة بين العبد والرسول صلى الله عليه وسلم:
وهي في المبتدأ نابعة من محبة الله عز جل ومنبثقة عنها، “قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” آل عمران:31.
وهي شرط في تحقق الإيمان الخالص، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من مالِه وأهلِه والناسِ أجمعين” صحيح النسائي:5029.
ويصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من المؤمنين يأتون من بعده تبلغ محبتهم له أشدها وبغية رؤيتهم له درجة التضحية بالمال والأهل، نسأل الله عز وجل أن نكون منهم، “مِن أشدِّ أمَّتي لي حبًّا، ناسٌ يَكونونَ بَعدي، يودُّ أحدُهُم لَو رآني، بأَهْلِهِ ومالِهِ” مسلم:2832.
وفي سياق آخر يخبرنا القرآن الكريم عن موسى عليه الصلاة والسلام، وما حباه الله به من ملاحة وحُسن يجتذب محبة من رآه، ويثير مشاعر التعلق إليه في قلب من أبصره، “وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي” طه:39.
محبة بين العبد وأخيه:
على غرار شرط تحقق الإيمان الخالص وهو محبة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تفضل وتعلو محبة الأهل والمال والناس أجمعين، يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم شرطا آخر لتحقيق الإيمان الخالص وهو المساواة والمعادلة بين محبة ما يحب العبد لنفسه وما يحب لأخيه، يقول صلى الله عليه وسلم، “لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه” البخاري:13.
وفي الحديث المشهور عن السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، منهم رجلان تحابا في الله فاجتمع قلباهما على طاعته وحبه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “سبعةٌ يُظِلُّهمُ اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: الإمامُ العادلُ، وشابٌّ نشأ في عبادةِ ربِّه، ورجلٌ قلبُه مُعَلَّقٌ في المساجدِ، ورجلان تحابَّا في اللهِ اجتَمَعا عليه وتفَرَّقا عليه، ورجلٌ طلَبَتْه امرأةٌ ذاتُ مَنصِبٍ وجمالٍ، فقال إني أخافُ اللهَ، ورجلٌ تصَدَّق، أخفَى حتى لا تَعلَمَ شِمالُه ما تُنفِقُ يمينُه، ورجلٌ ذَكَر اللهَ خاليًا، ففاضَتْ عيناه” البخاري:660.
محبة العبد لمخلوقات الله:
صور ذلك كثيرة في السنة النبوية وكتب السير، وهي شاهدة على محبة متبادلة بين الرسول صلى الله عليه وسلم ومخلوقات الله عز وجل ومنها تصريح النبي بحبه لجبل أحُد كما ورد في الحديث، “أقبلْنا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من غزوةِ تبوكٍ، حتى إذا أشرفْنا على المدينةِ قال: هذه طابةُ، وهذا أُحدٌ، جبلٌ يُحبنا ونحبُّه” البخاري:4422.
ومنها حنين جذع النخلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، “أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كان يقومُ يومَ الجمعةِ إلى شجرةٍ أو نخلةٍ، فقالت امرأةٌ من الأنصارِ، أو رجلٌ: يا رسولَ الله، ألا نجعلُ لك منبرًا؟ قال: إن شئتم. فجعلوا لهُ منبرًا، فلمَّا كان يومَ الجمعةِ دُفِعَ إلى المنبرِ، فصاحت النخلةُ صياحَ الصبيِّ، ثم نزل النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فضَمَّهَا إليهِ، تَئِنُّ أنينَ الصبيِّ الذي يُسَكَّنُ. قال: (كانت تبكي على ما كانت تسمعُ من الذِّكْرِ عندها)” البخاري:3584.
ومن صور محبة النبي صلى الله عليه وسلم التي أودعها الله تعالى في قلوب الحيوانات ما أورده ابن حجر: “…كان النصارى ينشرون دعاتهم بين قبائل المغول طمعاً في تنصيرهم، وقد مهد لهم الطاغية (هولاكو) سبيل الدعوة بسبب زوجته الصليبية (ظفر خاتون)، ذات مرة توجه جماعة من كبار النصارى لحضور حفل مغولي كبير عقد بسبب تنصر أحد أمراء المغول فأخذ واحد من دعاة النصارى في شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هناك كلب صيد مربوط، فلما بدأ هذا الصليبي الحاقد في شتم النبي صلى الله عليه وسلم زمجر الكلب وهاج ثم وثب على الصليبي بشدة فخلصوه منه بعد جهد، فقال بعض الحاضرين: هذا بكلامك في حق محمد صلى الله عليه وسلم؟
فقال الصليبي: كلا بل هذا الكلب عزيز النفس، رآني أشير بيدي فظن أني أريد ضربه. ثم عاد فسب النبي صلى الله عليه وسلم، أقذع في السب، عندها قطع الكلب رباطه ووثب على عنق الصليبي وقلع زوره في الحال، فمات الصليبي من فوره، فعندها أسلم نحو أربعين ألفاً من المغول…” الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: 3/202.
نسأل الله عز وجل أن يعلق قلوبنا بمحبته ومحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *