إن الصراع بين الحق والباطل صراع قديم، وسيظل قائما مستمرا إلى أن يشاء الله تعالى، ومعاداة أهل الباطل لأهل الحق واقعة في كل زمان ومكان، كما قال ورقة بن نوفل للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: “لم يأت رجل قطَ بمثل ما جئت به إلا عودي”.
وإن عدو الأمس هو عدو اليوم، وأهدافه قديما هي نفسها حديثا، وإنما فقط تتغير الأسماء والأشكال وأساليب العداء ووسائله وطرقه..
ومن أبرز أساليب أهل الباطل وأخطر خططهم في معاداة الحق ومغالبته؛ مهاجمة ترسانته المفاهيمية والعبث بها ومحاولة تدميرها.
وقصدهم من وراء ذلك هو طمس معالم المفاهيم الإسلامية وتمييعها وتعكير صفائها وتفريغها من حمولاتها الشرعية، حتى تصير مجرد أطلال مهجورة تشهد على زمن مضى وقوم رحلوا ولا يكون لها في دنيا اليوم وبين أهلها دور في توجيه أو ترشيد…
كما أنهم يريدون بذلك أن يحصل للمسلمين خلط وغبش مفاهيمي؛ فلا يتبينون الحق من الباطل ولا الصواب من الخطإ ولا الصديق من العدو؛ فيُؤتمن الخائن ويُخوَن الأمين ويُصدَق الكاذب، ويُكذَب الصادق، وينطق كل رويبضة بما يشاء.
وفي ظل هذا الغبش ينطلق أهل الباطل يوجهون طعناتهم لقيم الإسلام وأحكامه، في دياره وبين أهله، وهم في مأمن من أن تُكشف حقيقتهم ويُفتضح أمرهم، وفي مأمن من المساءلة والمحاسبة. واللئيم إذا أمن العقاب ولم يوُقف عند حده؛ ازداد لؤما..
ومن هنا نفهم سر ذلك السعار الذي يصيب العلمانيين في بلاد المسلمين وحساسيتهم الشديدة ضد المفاهيم الإسلامية. نفهم لماذا يؤرقهم أن تُسمى المسميات بأسمائها الشرعية، ولماذا يُزعجهم أن يتداول المسلمون المفاهيم الإسلامية، ولماذا يرفضون أن يقال للكفر كفرا، وللكافر كافرا، وللنفاق نفاقا…
ثم نفهم سر استماتتهم وحرصهم الشديد على تحريف الكلم عن مواضعه، فينحتون من الحروف ألفاظا وعبارات يقدمونها بديلا للألفاظ الشرعية التي نزل بها الوحي الرباني على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: فالكفر عندهم حرية تعبير، ورأي حر، وجرأة وشجاعة في الطرح والفكر. والزانية التي ولدت من سفاح: أم عازبة، واللواط :مثلية، وفي المقابل: الجهاد في سبيل الله إرهاب، والالتزام بالإسلام تزمت ورجعية… وهلم جرا.
دور المسلم المحب لدينه في هذه المعركة
وجب على المسلم أن يتنبه لهذه المعركة المفاهيمية التي يخوضها العلمانيون وأهل الباطل ضد دينه، وأن يأخذ حذره ويعد عدته. ومن الحذر الواجب، أن يحرص على التقيد بالمفاهيم الإسلامية وتوظيفها، وأن يسمي المسميات بأسمائها الشرعية التي سماها بها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وألا يستبدل بها “منحوتات” العلمانيين التي ما أنزل الله بها من سلطان.
يجب أن يُقال للكفر كفرا، وللكافر كافرا، وللزنا زنا.. ولو كره العلمانيون. وليست هذه دعوة لتكفير المعينين من الناس؛ فإن ذلك من شأن العلماء الذين يتحققون من وجود أسباب الكفر وتوفر شروط التكفير وانتفاء موانعه…؛ وإنما المقصود أن هناك من الأعمال ما يعد كفرا و يُعدَ صاحبها كافرا؛ كسب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والانتقاص من قدره، والاستهزاء بشرع الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، واستحلال ما حرم الله، وإنكار معلوم من الدين بالضرورة ونحوها. فهذه لا يصح أن تسمى إلا كفرا.
قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله في الإبانة: “وندين بأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمور، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون -وقال- ونقول أن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبههما مستحلا لها غير معتقد لتحريمها كان كافرا”1، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة.
اهتمام القرآن الكريم بضبط المفاهيم وحفظها من العبث بها
إن القرآن الكريم حريص على ضبط المفاهيم الإسلامية وحمايتها من عبث العابثين وحفظها من أي تمييع أو تزييف. ومن ذلك أنه لما استعمل بعض الأعراب مفهوم الإيمان وادعوه لأنفسهم ولم يكونوا من أهله حقيقة، رد عليهم القرآن وألزمهم حدودهم. قال تعالى: “قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ” الحجرات14.
كما أنه نهى عن توظيف مفاهيم أهل الكفر والنفاق ومصطلحاتهم التي يقصدون بها الإساءة إلى الله ورسوله، وإن كان لها معنى آخر سليما غير ما يقصده الكفار والمنافقون. ومن ذلك قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ” البقرة 104.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: “كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين: “راعنا”، أي: راع أحوالنا، فيقصدون به معنى صحيحا. وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا، فانتهزوا الفرصة، فصاروا يخاطبون الرسول بذلك، ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة سدا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز إذا كان وسيلة إلى محرم، وفيه الأدب، واستعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا الحسن، وعدم الفحش، وترك الألفاظ القبيحة، أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن، فقال (وَقُولُوا انظُرْنَا) فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور”2.
خاتمة
إن العلمانيين يبذلون كل ما في وسعهم لكسب هذه المعركة ضد الاسلام، فمصانعهم التي يعدون فيها قنابل المصطلحات والمفاهيم تعمل باستمرار لبناء ترسانة ضخمة، تُمكنهم من تدمير حصون المفاهيم الشرعية ونقض قواعد القيم الإسلامية، ومن ثم بسط السيطرة على بلاد المسلمين واستغلال ثرواتها واتخاذ أهلها عبيدا يباعون ويشترون في أسواق النخاسة العلمانية.
وهاهم قد دخلوا هذه المعركة فبتنا نراهم يُطلقون بعض ما أنتجوه من ذخيرة مفاهيمية؛ فكان لزاما أن نعزز خط دفاعنا وهجومنا، ولا يفل الحديد إلا الحديد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ــ الإبانة عن أصول الديانة، ص:33.
2 ــ تيسير الكريم الرحمان في تفسير كلام المنان1/82.