خص الله عز وجل المسلمين في كل سنة بشهر مخصوص، يحمل معه فضائل وبركات ويأتي ببشائر ومكرمات، تعم خيراته المُحسِن لما يُتاح له من فضل مضاعفة الأجور وإجزال التواب، وكذلك المُسيء لإتاحة فرصة التوبة وتجاوز ما فات من المعاصي والزلات، بداية صفحة جديدة من الصلاح والاستقامة، شهر رمضان يضيء لنا أنوار الهدى ويسرج لنا ضياء البشرى، يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} البقرة:185، فهذه قبسات من تلكم الأنوار وومضات من تلكم البشائر:
تغيير نمط الحياة
ومنها تغير أوقات النوم والاستيقاظ ومواعيد الأكل والايقاع الزمني المعتاد لليوم والليلة، وأوقات الأشغال المنزلية خاصة بالنسبة للنساء وكذا فترات العمل خارج البيت بالنسبة للرجال، لذلك ينصح بوضع برنامج خاص لتوزيع الأعمال الدينية والدنيوية عبر فترات اليوم والليلة خلال شهر رمضان، بما يناسب احتياجات واستعدادات كل فرد، وهذا التغيير في نمط العيش له مزاياه الإيجابية من كسر روتين الحياة العادية على طول أيام السنة، وتجديد روح الحيوية والنشاط وتجاوز الرتابة، التي تبعث على الملل والخمول، كما يوفر فسحة زمنية لتجديد الإيمان ومراجعة النفس والتخطيط للمستقبل خصوصا وأنه يصادف العطلة الصيفية لهذه السنة.
تهذيب النفس
الصيام كبح لشهوات البطن والفرج، وترويض للنفس على التحمل والصبر وتعويد لها على المراقبة والمحاسبة، وهذا بمثابة وقاية لها من العادات السلبية التي قد يقع فيها المرء سائر الأيام الأخرى، كاللغو والجدال والغيبة والإسراف في الطعام والشراب وإدمان المحرمات كالتدخين وغيره وتبذير الوقت فيما لا منفعة ترجى منه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الصيامُ جُنَّةٌ، وإذا كان يومُ صومِ أحدِكُم فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَلَهُ فلْيقلْ: إنِّي امْرُؤٌ صائمٌ” البخاري:1904.
إحياء القرآن في النفوس
رمضان شهر القرآن وفيه أُنزل، يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} القدر:1-2، فمن الواجب على المسلم إحياء كتاب الله تعالى بالتلاوة والقيام والتدارس والحفظ، وهذه سنة نبوية علينا اتباعها لما لها من أجر عظيم، فقد ورد في الأثر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: “كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أجودَ الناسِ بالخيرِ، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ، حينَ يلقاهُ جبريلُ، وكان جبريلُ عليهِ السلامُ يلقاهُ كلَ ليلةٍ في رمضانَ حتى يَنْسَلِخَ، يعرِضُ عليهِ النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ القرآنَ: فإذا لَقِيَهُ جبريلُ عليهِ السلامُ، كانَ أجودَ بالخيرِ من الريحِ المرسلةِ” البخاري:1902.
إقبال القلب على الله عز وجل
كلما حقق العبد ما تقدم من مراقبة للنفس ووقايتها من الزلل وملازمة القرآن بالتلاوة والقيام، إلا وازداد القلب تعلقا بالخالق وارتقت النفس في مراتب التقوى، ومن بواعث هذا الإقبال أيضا السعي في استزادة الأجر بالإكثار من النوافل على تنوع ضروبها من ذكر وتطوع وصدقة وتلاوة قرآن، ولا أعظم أجرا على ذلك من اجتهاد العبد في هذا الشهر الفضيل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: “لا يزال العبد يتقرب إلي بِالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها” عارضة الأحوذي: 6/244 (صحيح).
نفحات من الجنة
ما من مسلم إلا ويعمه فضل هذا الشهر بتلقي عمله الصالح بما خصه الله تعالى خلاله من فتح لأبواب الجنة استعدادا لاستقبال أهل الصيام وطاعاتهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا جاء رمضانُ فُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ” البخاري: 1898، وبتخصيص باب لهم لا يدخله أحد غيرهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّ في الجنةِ بابًا يقالُ له: الريَّانُ، يقالُ يومَ القيامةِ: أين الصَّائمون؟ هل لكم إلى الريَّانِ؟ من دخلَهُ لم يظمأْ أبدًا فإذا دخلوا أغلِقَ عليهم ، فلم يدخلْ فيه أحدٌ غيرُهم” صحيح النسائي: 2236.
نزول الرحمة والسكينة
المؤمن في رمضان يستشعر جوا خاصا، يختلف عن سائر أيام السنة، فتَرِق نفسه وتسكن روحه ويستقبل فيضا من الرحمات يزداد تدفقا كلما اقتربت العشر الأواخر وليلة القدر، يقول الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ} القدر:3-5.
كفارة الذنوب
رمضان محطة يجب على المؤمن اغتنامها لتكفير ما أسلف من الذنوب، وهو وقفة للاغتسال من أدران الخطايا خلال السنة كلها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الصلواتُ الخمْسُ، والجُمعةُ إلى الجُمعةِ، ورَمضانُ إلى رمضان، مُكفِّراتٌ لما بينهُنَّ إذا اجْتُنِبتْ الكبائِرَ” صحيح الجامع:3875. ويقول عليه الصلاة والسلام: “مَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا ،غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ، ومَن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ” البخاري: 2014.
الفرحة
وهو إحساس يستشعره جميع المسلمين كلما سمعوا أذان المغرب، والفرحة أعظم يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “للصائمِ فرحتان: فرحةٌ عند فطرِه، وفرحةٌ عند لقاءِ ربِّهِ، ولخُلوفٌ فيهِ أطيبُ عند اللهِ من ريحِ المسك” مسلم:1151.
فرصة للاستقامة
رمضان باب مفتوح للتوبة والإقلاع عن الذنب وبداية حياة جديدة مليئة بالإيمان والعطاء، وهو نداء لأصحاب الإرادة في الصلاح والإصلاح ودعوة لأهل النوايا الصادقة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا كان أوَّلُ ليلةٍ مِن شهرِ رمضانَ صُفِّدتِ الشَّياطينُ مَرَدةُ الجنِّ وغُلِّقت أبوابُ النَّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ وفُتِّحت أبوابُ الجنَّةِ فلم يُغلَقْ منها بابٌ، ومنادٍ يُنادي: يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ، ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِرْ، وللهِ عُتَقاءُ مِن النار وذلك كلَّ ليلةٍ” صحيح ابن حبان: 3435.
أجر غير محدود
وهذا من أعظم فضائل هذا الشهر الكريم، بأن أخفى الله تعالى أجر ثوابه، واختص وحده عز وجل بعِلم جزاء الصائمين، ولعل من مقاصد ذلك، ترغيب العباد وحثهم على الصوم والتنافس فيه، وإخلاص هذه العبادة بما تقتضيه من أحكام وشروط، والمواظبة على أداء هذا الركن من الدين لما يستوجبه من الإعظام والإكبار في نفوس المسلمين: فقد جاء في الحديث القدسي: “قال اللهُ : كلُّ عملِ ابنِ آدمَ لهُ إلا الصيامَ، فإنَّه لي وأنا أُجْزي بهِ، والصيامُ جُنَّةٌ، وإذا كان يومُ صومِ أحدِكُم فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَلَهُ فلْيقلْ: إنِّي امْرُؤٌ صائم، والذي نفسُ محمدٍ بيدهِ لَخَلوفِ فمِ الصائمِ أطيبُ عندَ اللهِ من ريحِ المسكِ” البخاري:1904.
اللهم بلغنا رمضان وأعِنَّا على حسن صيامه وقيامه.