يسعى العبد في هذه الدنيا لنيل رضا الله تعالى والفوز بجنته، مجتهدا لتحقيق ذلك، بالأخذ بجميع الأسباب المشروعة، ويتجسد اجتهاد العبد هذا بتوجهه إلى ابتغاء وجه الله عز وجل بخالص الطاعات وصالح الأعمال وأفضل القربات، وبالصبر مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، يقول الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} الكهف:28.
فابتغاء وجه الله عز وجل هو في حقيقته التماس الأجر والثواب من الخالق تعالى وهو أصل في النوايا والمقاصد التي يُتوخى منها الأعمال الخالصة لله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «.. فإن اللهَ حرَّمَ على النارِ مَن قال: لا إلهَ إلا اللهُ، يَبْتَغِي بذلك وجهَ اللهِ» البخاري:5401.
وذلك يقتضي من العبد التمسك بكتاب الله تعالى، واتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيأتمر بأوامرهما وينزجر بنواهيهما، ويبذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس، ويضحي بماله ونفسه وولده.
فهذه المسائل وغيرها تعتبر من الأسباب الموصلة إلى التقرب من الله عز وجل، الباعثة على التوجه إليه تعالى بالقلب والفكر والوجدان، وهي تستلزم منا تمثلها في سلوكاتنا ومعاملاتنا اليومية، وتحتاج منا الوقوف عليها بمزيد من التأمل والاستحضار، وهذه بعض من تلكم الأسباب مع الاستشهاد على معانيها بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة:
التمسك بكتاب الله
القرآن الكريم منهاج كل مسلم وصراطه المستقيم، وهو الموجه له في تعامله مع ربه ومع نفسه ومع غيره، ونجد القرآن الكريم يرشدنا في آيات كثيرة إلى السعي لابتغاء وجه الله تعالى موضحا لنا سبل هذا السعي، مبينا فضائله، يقول الله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ} الليل:17-21.
اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم
السنة المطهرة وحي من الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ألفينّ أحدكمْ متكِئا على أريكته يصلُ إليهِ عنّي حديثٌ فيقولُ لا نجدُ هذا الحكمَ في القرآنِ، ألا وإنّي أُوتيتُ القرآنَ مثلهُ معهُ» كشف الخفاء:2/569، وهي شارحة للقرآن مفسرة له، ومخالَفةُ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من السنة هي في حقيقتها مخالَفةٌ لما شرعه الله عز وجل، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَو يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} النور:63.
كما أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته إنما هي نابعة من محبة الله تعالى وطاعته، وهما برهانان واضحان على ابتغاء وجه الله تعالى وتعلق القلب به، يقول الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} آل عمران:31، {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} النساء:80.
البذل والإنفاق في سبيل الله
التقرب إلى الله تعالى بالمال والنفس من أدل المساعي لابتغاء وجهه عز وجل، فهو تعبير من العبد على أن الله تعالى عنده أعز وأعظم مما سواه، وأن العبد يتوق إلى لقاء ربه ويسعى إلى إرضائه بأغلى وأعز ما يملك، يقول الله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} البقرة:272.
الصبر ودرء السيئة بالحسنة
الإشارة هنا إلى مجموعة من الشروط والصفات التي على المؤمن التحلي بها والتزام القيام بها، كسبل يُقصد بها ابتغاء وجه الله تعالى، وثمرة ذلك كله جنات عدن تسعه هو ومن صلح من أصوله وفروعه وأزواجه، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} الرعد:22-24.
التوجه إلى الله تعالى بالفكر والقلب والوجدان
يقول الله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الأنعام:52، ويشمل ذلك ثلاثة مسائل:
التفكر والتدبر: وذلك بما أجراه الله تعالى على لسان عبده من تلاوة القرآن والأذكار، مستحضرا في ذلك عظمة الخالق ومتدبرا في ملكوته، مستجمعا حضور القلب والفكر صارفا عن نفسه جميع الشواغل والملهيات، يقول الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ص:29، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» البخاري: 7455.
الخشوع والإخلاص: وهو استجماع ما وقر في القلب من التصديق، وتركيز خواطر الوجدان والعقل في وجهة واحدة إلى الله تعالى في النوايا والأعمال والأقوال، باستشعار قربه عز وجل ومراقبته واطلاعه على السر والعلن.
فعن أبي أمامة الباهلي «أنَّ رجلًا جاءَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ، أرأيْتَ رجلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ والذِّكْرَ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «لا شَيْءَ لهُ» فَأَعادَها ثلاثَ مراتٍ، يقولُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «لا شَيْءَ لهُ»، ثُمَّ قال: إِنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ مِنَ العَمَلِ إِلَّا ما كان لهُ خَالِصًا، وابْتُغِيَ بهِ وجْهُهُ» جامع العلوم والحكم:1/81.
المناجاة: وتكون بالدعاء والتذلل والبكاء، أثناء اختلاء العبد بربه وعند السجود مع إقبال القلب عليه، يقول الله تعالى: {أَمَّنْ هُو قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} الزمر:9.
مع تحري أوقات الاستجابة وأفضلها الثلث الأخير من الليل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ينزِلُ ربُّنا تبارَكَ وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدُّنيا حينَ يبقى ثلثُ اللَّيلِ الآخرِ، فيقولُ: مَن يدعوني فأستجيبَ لَه؟ من يسألُني فأعطيَهُ؟ من يستغفِرُني فأغفرَ لَهُ» البخاري:1145، فالله عز وجل هو ملاذ الحائرين، ومنصف المظلومين، وملجأ التائبين، وأمل اليائسين، وحصن الخائفين.
اللهم اجعلنا ممن يبتغون وجهك الكريم ويسر لنا سبل ذلك.
والحمد لله رب العالمين.