لم تكد تمض سوى أيام قليلة على حادثة المنصة التي شهدت مقتل «أنوار السادات» ومخاض تنصيب الدكتور الأزهري عمر عبد الرحمان أميرا للجماعة الإسلامية في 8 أكتوبر 1981م حتى احتقنت جذوة المواجهات من جديد في مدينة أسيوط من خلال قيام بعض كوادر الجناح العسكري للجماعة الإسلامية بشن سلسلة من الهجمات التصعيدية؛ بدأت بمهاجمة مديرية أمن أسيوط، ومراكز الشرطة، وثكنة الجيش، وانتهت بإحكام العناصر المهاجمة قبضتها على المدينة الصعيدية التي كانت بمثابة معقل حصين للجماعة، بحكم إيوائها لساكنة تشكل قاعدة تعاطفية مهمة مع أدبيات الجماعة، ولعل المظلومية الصعيدية كان لها أيضا أثر عميق في تفسير الانتشار الصعيدي الكبير داخل قواعد الجماعة الإسلامية.
دامت رحى المواجهات الدامية بين الجناح العسكري للجماعة الإسلامية بقيادة كرم زهدي وناجح إبراهيم وعصام دربالة، وبين قوات الأمن المصرية ليومين كاملين، كانت معركة حامية الوطيس قتل فيها العديد من كبار رجال الشرطة والقوات الخاصة وأسدل ستارها بإلقاء القبض على الثلاثة المذكورين الذين تورطوا في هذه العملية دونما الرجوع لمجلس شورى الجماعة لأخذ رأيه ولا حتى باستئذان أميرها المنتخب حديثا عمر عبد الرحمان، وهكذا ألقي القبض على المتهمين، ووجهت إليهم تهم ثقيلة حكم على أثرها عليهم بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة لمدة عشرين عاما تحت تهمة ما عرف آنذاك إعلاميا بقضية «تنظيم الجهاد».
بداية من عام 1984م وبعد تولي حسني مبارك لمقاليد الحكم في بيئة سياسية متشنجة يتدافعها الإسلاميون والناصريون والليبراليون الجدد، آثر الأخير وفي خطوة تصالحية من قبله أن يفرج عن معظم أفراد الجماعة الإسلامية القابعين في المعتقلات منذ حادثة المنصة، وقد استثنى القرار الرئاسي يومها المتورطين في قضايا تنظيم الجهاد الذي أذهب هناءة نوم المسؤولين بالبلاد، وأعيد تنظيم الجماعة مرة ثانية بمبادرة من شقيق منفذ عملية المنصة «محمد شوقي الإسلامبولي» ليزداد نشاطها بمرور الأيام في الدعوة إلى الله من خلال العمل تحت مظلة المساجد وعقد اللقاءات والندوات والمعسكرات واستثمار هامش الحرية في الجامعات مستغلة الكسب الإعلامي لأحداث المنصة وهجمات أسيوط.
وكان خطاب الجماعة الإسلامية آنذاك يتراوح بين الدعوة إلى الخروج على الحاكم «حسني مبارك» وقتال الطائفة الممتنعة عن إقامة شرع الله «الجيش والشرطة».
قوات الأمن المصرية من جانبها لم تظل مكتوفة الأيدي، بل شنت سلسلة من الحملات الاعتقالية في ما يشبه الصدام المتكرر مع شباب الجماعة؛ فألقت القبض على الكثير منهم وضيقت عليهم، وعذبتهم داخل المعتقلات، ومن ثم خرج الصراع عن نطاق المناوشات بعدما لجئت قوات الأمن إلى إتباع أساليب التصفية الجسدية، مما أوجد بين أفراد الجماعة الإسلامية ردود فعل عنيفة، ترجمتها ميدانيا بعد اغتيالها لضباط وجنود الشرطة والجيش وغيرهم.
بتعاقب السنوات المصحوبة بالمواجهات الدموية بين الطرفين، فضل بعض كوادر الجماعة الإسلامية النفر إلى ميادين الجهاد في أفغانستان للمشاركة في دحر السوفيات، وقد كان للجماعة دورها البارز في البصم على بشريات ملحمة الجهاد الأفغاني؛ حيث قدمت العديد من الشهداء على أرض أفغانستان من أبرزهم الشيخ «علي عبد الفتاح» أمير الجماعة الإسلامية بالمنيا سابقاً، ناهيك عن عشرات من الشباب المحسوب على الجماعة الإسلامية ومن هناك أصدرت الجماعة مجلتها الرسمية «المرابطون» وأقامت قواعد عسكرية لها هناك.
دحر المجاهدون الأفغان السوفيات وأرغموه على الخروج من أرض أفغانستان ذليلا مهيض الجناح، واختار أفراد الجماعة الإسلامية على وقع التفاؤل والانتصار العودة لمصر للعمل من جديد على فرض فكرة تحكيم شرع الله بقوة الكلمة والسلاح، دخلوا مصر وبين خواصرهم أغماد يستلون منها سيوف التجربة الجهادية الأفغانية بدقيق تفاصيلها الملحمية، ويمكن أن نقول أن عودة العناصر المؤثرة للبلاد قد تزامنت مع سبات سكوني واضمحلال تنظيمي حاد خيم على أجواء الجماعة الإسلامية طيلة ثلاث سنوات كاملة.
نظم العائدون من أفغانستان صفوفهم بعد التحامهم مجددا مع رفاق الأمس، وبادروا إلى نفض غبار سبات السنوات الثلاث عن هدفهم العريض الذي بذلوا لأجله الغالي والنفيس في ما مضى من السنون، وفي سبيله قامت جماعتهم وسالت دماء رفاقهم.
استبقت داخلية حسني مبارك عودة هؤلاء، وعجلت بانطلاق شرارة المواجهات العنيفة من جديد بعد اغتيالها للمتحدث الرسمي باسم الجماعة الإسلامية «علاء محيي الدين» وردت الجماعة من جانبها على حادثة الاغتيال ببيان ناري متوعد عنونته ب«آن الأوان ليسكت الكلام ويتكلم الرصاص».
وبالفعل فإن أولى رصاصات الجماعة الإسلامية اخترقت رأس رئيس مجلس الشعب (رفعت المحجوب) وأردفته بالصحفي العلماني المتطرف فرج فودة، فتبادل الطرفان حوادث الاغتيال والمواجهات، وكان علقم ختامها حادثة الأقصر الشهيرة عام 1997م التي هاجم فيها بعض أفراد الجماعة الإسلامية منشأة سياحية قتل على إثرها 60 سائحا من مختلف الجنسيات لتكون محصلة هذه الموجة العنيفة التي امتدت لسبع سنوات كاملة أكثر من ألف قتيل وعشرات الآلاف من المعتقلين إضافة إلى خسائر اقتصادية فادحة مني بها القطاع السياحي المصري.
في الخامس من يوليو عام 1997م وبعد حادثة الأقصر وما أعقبها من تنديدات وأصابع اتهام كانت تطال المكون الإسلامي عموما، ألقى أمير الجماعة الإسلامية بأسوان «خالد ابراهيم» أثناء جلسة محاكمته بيانا ملفتا مذيلا بتوقيع القادة التاريخيين للجماعة الإسلامية ينص على إلقاء الجماعة للسلاح، ووقفها لكافة أنواع العنف اتجاه الشرطة والمسؤولين والأقباط والسياح، وحقن الدماء ومراجعة فكر ومنهج الجماعة.
وشكل البيان يومها مفاجأة للكثيرين خارج وداخل الجماعة، وتباينت المواقف بين مؤيد ومعارض ومشكك، وكان إعلان وقف العنف من طرف واحد من جانب الجماعة أعلنت فيه وقف كافة العمليات العسكرية من جانبها دون أي مطالب مقابلة حتى لا تبدو المسألة وكأنها صفقة مع الحكومة.
وسارعت الحكومة إلى امتصاص هول الصدمة وتوظيفها سياسيا من خلال فتحها لصفحة جديدة تعكس حسن نواياها ويدها الممدودة المصافحة للإسلاميين، فأطلقت سراح «حمدي عبد الرحمان «أحد القادة التاريخيين الثمانية وذلك بعد انتهاء فترة محكوميته في بادرة غير مسبوقة من طرف النظام؛ فالشرطة دأبت على اعتقال كل من تنتهي فترة عقوبته وتعيده إلى زنزانته دونما أية تهمة أو محاكمة.
حمل «حمدي عبد الرحمان» لدى خروجه من السجن مراجعات الجماعة الإسلامية لنشرها وعرضها على المجتمع، وكانت المراجعات تبدو في أسها أقرب إلى مراجعة فقهية وليست فكرية للأسس والمبادئ الشرعية التي قام عليها فكر الجماعة الإسلامية في الثمانينات والتسعينات.
لتبدأ بالتالي سلسلة المتغيرات داخل فكر الجماعة الإسلامية، والتي انتهت بصياغة المراجعات الشهيرة؛ عندما شارك ثمانية من أعضاء مجلس شورى الجماعة من داخل محبسهم في إصدار رسائل متتابعة تحت عنوان: «سلسلة تصحيح المفاهيم»، وقد حوت هذه الرسائل حينها مراجعات فقهية للكثير من المفاهيم التي انتهجتها الجماعة الإسلامية في فترة الثمانينات والتسعينات، وتسببت في تصادمها مع الحكومة والنظام.