الدليل القيمي الكوني أوثق العرى للنهوض والارتقاء أمين أمكاح

تبدو خريطة الكيان الإنساني متشتتة وممزقة شأنها شأن غابة متوحشة في ظل امتدادات سرطان الفساد الاخلاقي وطغيان الانحرافات القيمية التي تنهش سلوك الأفراد وتصرفاتهم التي صارت غير منضبطة وأصابها الشذوذ.
إن إمعان النظر في رقعة العالم العربي والإسلامي اليوم ليظهر لنا هذه المنطقة حمراء قانية في امتهان الإنسانية، وعلى هذا الأساس أضحت الأمة الإسلامية أمة مستهلكة لمنظومة قيمها ومبادئها من قبل الآخر، وغدت في إطار نظرية ابن خلدون، ضمن تقليد المغلوب للغالب؛ فلا هي وعت ماهية حضارة الغالب، ولا هي رجعت إلى مصباح نورانية حضارتها اللامنتهية، وغدت على إثر ذلك لقمة سائغة لابتزاز الأمم القوية، ووقودا بشريا لحروبها التدميرية في هذا العصر؛ فهي أمة في غيبوبة الحضارة وفاقدة للنضج الحضاري، تحيا في ظلمات الاستبداد وتعكسه على نظمها السياسية، لتمارسه ببراعة على شعوبها.
انطلاقا من هذا الخراب القيمي والشرود الحضاري الحاصل على جميع المستويات والأصعدة يمكن أن نتساءل عن ما مدى مركزية خلق دليل قيمي كوني وإيجاده على المستوى العملي في واقع الأمم لضبط هذا الطيش وتعديل هذه السلوكيات المنحرفة من أجل العودة إلى سكة النهوض الإنساني الحضاري الراقي؟
تعد القيم مسألة جوهرية وقضية مركزية في هذا العصر الرقمي والمادي بامتياز، والذي تجثم فيه التقنية والمادة وتفرضان نفسيهما على جميع الأمم، وأمام الانفصال الحاصل بين حياة الفرد والقيم الإنسانية والأخلاقية، بحيث يظهر لنا أن العالم تحول إلى مادة استعمالية يوظفها القوي لحسابه، فتظهر لنا أهمية القيم بكونها اللبنة الأساسية في بناء نموذج الإنسان الصالح، والتي من منطلقها تصلح معظم الشؤون الإنسانية سواء الخاصة أو العامة، ونحن نرى أن إهمال الجانب القيمي في مقابل الاهتمام والحرص الشديد على ما هو علمي معرفي صرف لن يفيد بشيء.
فالتفوق العلمي لن ينفع المجتمع إذا كان سينتج لنا قادة فاسدين أخلاقيا لأنهم سيتصرفون بنفعية وقد يتسببون في انهيار الأوطان ودمارها، من هذا المنطلق بدت الحاجة إلى فهم وسبر أغوار هذا الغياب التام للموجه القيمي الكوني المبني على أساس اعتبار الإنسان مواطنا عالميا، وهذا هو الداعي الأساسي للعمل على إيجاد منظومة قيم كونية وترسيخها في بعدها العالمي انطلاقا من قوله تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، وهذه الكونية لا تكتسب إلا في سياق الحوار بين المرجعيات لكي تصبح مشتركة إنسانيا وتلاءم وتوافق الزمن الحالي أي تكون متجانسة ومنفتحة على العالم كله، دون إغفال الحاجة إلى الابتكار والإبداع في خلق طرق جديدة وآليات متطورة لغرس هذه المنظومة القيمية المشتركة في الأجيال الصاعدة، وتفعيل دورها في تحقيق النهوض والارتقاء الحضاري المنشود، وكذا وقاية المجتمعات الإنسانية من العبثية والعنف والانحلال.
تبقى القيم ضرورية وجوهرية في حياة الإنسان ومرافقة له، لكونها تنظم حياتنا، ونتخذ في ضوئها قراراتنا ونستشعرها في سلوكياتنا، فالعمل بمقتضى القيم وتحكيمها في اختيار السلوكيات وتبني المسارات عن فهم واستيعاب واقناع قد يؤدي -في غالب الأحيان- إلى تشكل صرح متين ومانع من الهجمات المصوبة بدقة لتعطيل البنية الخلقية والوجدانية وكذلك آليات التفكير، فتكون هي المأمن من هذه المخاطر التي تهدد المرء على الدوام.
إن نجاح عملية إخراج وبناء الإنسان المأمول والمجتمع المنشود لن تتم بالأساس أمام هذا الفراغ الحاصل على المستوى القيمي، مما يضعنا أمام مشكلة إنسانية معقدة لن يتم فك شفرتها إلا بوجود دليل قيمي كوني كقاعدة موحدة للذات ومشتركة للجماعة والمجتمع العالمي.
فتوافر القيم والسلوكيات الموجهة تدعم علاقة الإنسان بالمجتمع المحيط به، فيصوب التفكير ويسدد التصرف بإحكام حتى يستطيع كل واحد القيام بأدواره على حقها أي على أكمل وجه.
الأساس في اعتماد هذا الدليل القيمي الكوني ينطلق من مبدأ التشاركية بعيدا عن التمايز الحاصل بين معالم النموذج الأخلاقي في التصور الإسلامي من جهة، ومرتكزات القانون الأخلاقي الغربي من جهة أخرى، والارتكاز على أهمية حوار الحضارات وتوازن المصالح، وبهذا سنستطيع تحقيق نوع من الحصانة القيمية في ظل الإصابات والتحولات التي طرأت على منظومة قيمنا، والتي كانت من أهم أسباب أزمتنا.
ينبغي أن تغلب هذه المنظومة القيمية الكونية على مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية التي تلعب دورا كبيرا في توجيه أفراد المجتمع سلوكيا وقيميا؛ فبمقدار ما يكون هذا التوجيه متكاملا ومتناسقا، بقدر ما ينعكس على الفرد بشكل لإيجابي، وبقدار ما يكون مشوشا ومتناقضا، يكون ذو أثر مدمر على الفرد والمجتمع، من هنا تأتي أهمية تأكيد الكثير من الخبراء والباحثين الاجتماعيين على أهمية وسائط التنشئة هذه في تكوين اتجاهات الفرد القيمية، وحمايته من الأزمات القيمية، والصراع القيمي على وجه التحديد.
إن تركيز المنظم القيمي الكوني على المنظومة التربوية ضروري، أي العمل على حصول الترسيخ أكثر في هذا الجانب، فتصبح القيم أكثر فعالية ميدانيا، بتطوير آليات الأجرأة والتنزيل على مستوى المناهج والبرامج التعليمية مع احترام البعد الكوني للقيم التي ستمرر عبره.
لا يمكن في عالمنا أن نسقط الفساد والاستبداد وننهض ونرتقي إلا في وجود هذا الدليل الذي نستند إليه ونأمن به، فإن كنا نرجو الاصلاح الفعال والنهضة الحقة فمن الضروري أن نربط حدوث ذلك بوجود دليل قيمي كوني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *