إنّ بلادا لا يجد فيها العالِم والباحث الأَكَاديميُّ عُشْرَ ما ينالُه لاعب الكرة أو المطربة من الاهتمام والتكريم لَتُمَثِّل مناخا طاردا لأصحاب العقول الكبيرة
ظاهرة مزعجة إلى حدٍّ بعيد، ما إن تكتب في محرك البحث على الشبكة العنكبوتية عبارة (هجرة العقول) حتى تداهمك النتائج الصادمة؛ أرقام تصيبك بالدهشة والذهول عن أعداد العلماء العرب من شتى التخصصات الذين امتصتهم بلاد الغرب وأدغمتهم في جسد المجتمعات الأوربية والأمريكية، والسؤال الأهم والأجدر بالاهتمام: ما هي الحلول الممكنة لهذه المعضلة؟ وهو سؤال تتوقف الإجابة عليه على معرفة الأسباب.
لذلك توجه اهتمام ورشة العمل التي أقامتها رابطة الأكاديميين العرب بتركيا ودعت إليها ثُلَّةٌ من رجال الفكر والنظر إلى بحث الظاهرة من جهتين: جهة الأسباب الباعثة، وجهة الحلول الممكنة، وعلى مدى ساعات من العصف الذهنيِّ والنقاش الجاد جاءت مخرجات الورشة على نحو فرض عليَّ -وقد كنت أحد المشاركين فيها- أن أتبنى هذه المخرجات، وأن أسعى لتفعيلها من خلال رابطة الأكاديميين العرب التي أتشرف بالانتماء إليها وأسعد بالانخراط في أنشطتها الهادفة النافعة.
فأمّا عن الأسباب فقد دارت كلها حول جملة من العوامل، يأتي على رأسها العامل السياسيّ؛ حيث أثَّر الاستبداد السياسيّ والفساد الإداريّ وغياب الرؤية لدى الأنظمة العسكرية التي حكمت بلاد العرب عقودا عديدة في الحياة العلمية، وحيث انعدمت الحرية التي هي المناخ الوحيد الباعث للابتكار والإبداع؛ مما كان له أثره في نزوح العقول العاشقة للحرية والطامحة في الحياة الكريمة إلى الغرب.
إنّ بلادا لا يجد فيها العالِم والباحث الأَكَاديميُّ عُشْرَ ما ينالُه لاعب الكرة أو المطربة من الاهتمام والتكريم لَتُمَثِّل مناخا طاردا لأصحاب العقول الكبيرة، وإنَّ أنظمة تحارب الفكرة وتلقي القبض على الخاطرة وتحصي على المفكرين ترداد عقولهم على الجديد المفيد لجديرة بأن تخلو من العلماء والمبدعين خلو الصحراء الجدباء من الكلأ والماء.
ويأتي بعده العامل الاقتصاديّ الذي يثمر إهمالا لحاجات البحث العلميّ، وانخفاضا شديدا في الإنفاق عليه وعلى الباحثين، وانعداما لإمكانيات تطبيق وتفعيل نتائج الأبحاث التي تشكو الغربة على أرفف الأكاديميات البائسة العابسة، فلا يرضى لنفسه البقاء في مثل هذه البلاد من العباقرة إلا من قنع بتسويد صفحات يعلم قبل تسويدها أنها لن ترى النور يوما!!
ثم يأتي العامل الاستراتيجي؛ حيث يؤثر سلبا غياب المشروع الذي يجتمع حوله الباحثون ويؤمنون به ويرون في تحقيقه تلبية لطموحاتهم، كما يؤثر انفصال العمل البحثي عن الأنشطة الإنتاجية وعن ميادين العمل والإنتاج، وغياب الروح الجماعية في البحث، وافتقاد الاستراتيجية المنبثقة من مشروع واضح المعالم. أمّا عن الحلول فقد اقْتُرِحَت جملة من الحلول التي يمكن أن تُفَعَّلَ إذا توافرت الهمّة وتضافرت الجهود، وكثير من هذه الحلول ليس بعيدا عن الواقع ولا سابحا في الخيال، غير أنّ السعي لتنفيذها يستغرق وقتا ويستدعي جُهدا ويستلزم تجردا واتحادا.
من هذه الحلول تفعيل دور الوقف الإسلاميِّ في توفير ما يلزم للبحث العلميّ ولكفالة الباحثين، مع بناء مدن علمية في بعض الدول الإسلامية القليلة التي تسعد بحياة سياسية مستقرة، والتي نجحت في أن تخطو على طريق النهضة، مثل تركيا وماليزيا وغيرهما، مع نشر كثير من المراكز البحثية والأكاديمية التي ينفق عليها وعلى المدن العلمية من الوقف الإسلاميّ.
وهو أحد الحلول التي أراها واقعية وعملية وفعالة، لاسيما إذا تمكنت البلاد الحاضنة من الاستفادة من مخرجات هذه المدن والمراكز البحثية، ويلزم لذلك وضع رؤية واستراتيجية ضمن مشروع حضاريّ للأمّة تجتمع عليه وترتضيه، فمما لا شك فيه أنّ أيّ حضارة لا بد وأن تكون قائمة على مشروع منبثق من بيئتها الثقافية، ومتآلف مع تاريخها وهويتها الحضارية.
وقد أشار كثيرون إلى أهمية دور تركيا كرائدة للنهضة في محيط الدول الإسلامية، وما يجب عليها حيال هذه القضية الكبيرة، وتطرق البعض في هذا الصدد إلى تفصيلات لا أرى أنَّ من المناسب طرحها في مقام كهذا، لكن الأنظار تتجه إلى تركيا ثم ماليزيا، إضافة إلى بعض البلاد الأخرى.
لكن يبقى أنّ المسألة في نطاق البحث عن حلول تحتاج إلى مزيد من الجهد ومزيد من البحث الجماعيّ، ولا تستغني عن تبني جهات قوية سياسيا واقتصاديا وعلميا للمشروع؛ لكونه مشروع أمّة، ويظلُّ السؤال شاخصا بقوة: ما هي الحلول الناجحة لأزمة نزيف العقل العربيّ والإسلاميّ، وكيف يمكن الاستفادة من هذا الرصيد الضخم الهائل من العقول المهاجرة؟