روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “عليكم بالسمع والطاعة، وإن كان عبدا حبشيا؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة”. 2/1164.
ولقد حصل بالفعل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل بلاد المسلمين، وذلك على كل المستويات.
فمن اليقين القاطع أن ما نعيشه اليوم لم يكن ليتخيله ذاك المغربي الذي عاش في بداية القرن العشرين، أيام كانت القوانين المغربية تتأسس على المذهب الفقهي، حين كان العلماء هم الطبقة العليا في المجتمع منهم الوزراء والسفراء والقضاة والمعلمون والمحتسبون، وكان حتى المؤذن له هيبته بله فَقِيه المسجد وخطيبه.
وكان الدين هو المشترك المقدس الذي تتهاوى دونه كل القناعات المنحرفة، وكل إنتاجات العقول المستلبة.
ذاك المغربي في ذلك الزمان لم يكن ليدور بخَلَده مهما رأى من انحرافات سلوكية لدى المراهقين والسفلة من اليافعين في زمانه، أنه سيأتي على المغاربة يوم، تصبح الخمر فيه تباع في الأسواق للمسلمين صغارا وكبارا، وأن يصبح القمار منظما بالقانون، ويعلن به في الوسائل العمومية، وأن تصير النساء المغربيات المتلفعات بالحايك أغلبهن عاريات يتنافسن في إظهار المفاتن، ومنهن من تراود الرجال جهرة في الشوارع، وأن يصير من الرجال من يتاجر في لحوم بناته، بل يطالب بعضهم بحماية اللواطيين وإبطال تجريم اللواط والبغاء وتناول الخمر وبيعها، كل هذه المظاهر وغيرها كثير، ما كان لأحد من المغاربة في مستهل القرن العشرين أن يتخيل وقوعه؛ نظرا للإجماع الذي كان معقودا من طرف الحكام والمحكومين على احترام شريعة الإسلام والأعراف الاجتماعية المنبثقة عنها.
لكن -للأسف- كل هذا وغيره وقع بفعل الاستمرار في تبني العلمانية التي أرسى الاحتلال الفرنسي دعائم الدولة الحديثة على أسسها.
غير أن هذا الانحراف والبعد عن الدين لم يشمل فقط الجانب التشريعي والقانوني، بل انسحب على أخطر الميادين ألا وهو ميدان التعليم وتبعه الشأن الثقافي، حتى صار من يتبنى التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان على مستوى النخبة غير معترَف به في عداد المثقفين ولا الصحفيين، بل أصبح العلمانيون يعيرون الكتاب والسياسيين والصحفيين الإسلاميين بأنهم مجرد شيوخ.
والأدهى والأمر أن هذه النخبة المستلبة ترى في الإسلام سبب التخلف، وترى في صحيح البخاري ومسلم وكتب الحديث والسيرة وكتب ابن تيمية وكتب غيره من الأعلام مصادر للتطرف والتشدد.
ومن عجيب ما يمكن أن يقرأه قارئ أو يسمعه سامع، تلك الشعارات التي تقفز على تاريخ الأمة وتدعي أن الإسلام علماني لا سياسة فيه، وأن كتب الصحاح وخصوصا صحيحي البخاري ومسلم، امتدت لها أيدي السياسيين فوضعت فيها أحاديث كثيرة مكذوبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الغرض من هذا الوضع كان هو تبرير حكم من كان يحكم وقت تدوينها.
فأي خرف هذا؟؟
وأية صفاقة وجه هذه؟؟
هذا الكذب والتزوير لم يستطعه حتى جهابذة المستشرقين المغرضين الذين راموا تشكيك الأمة في مرجعيتها ومستنداتها التي تبني عليها عقائدها وعباداتها وسلوكياتها ومعاملاتها.
فجاء علمانيو هذا الزمان في بلاد الإسلام ليرموا من فوهات وجهوهم هذا الخرف والكذب والتزوير في زمن لم يبق للقرآن والسنة سلطان يحميهما من عبث العابثين.
ولعل الدافع لهذا كله -كما هو واضح لكل متتبع- هو تنامي الحضور المتميز للتيارات الإسلامية في المجال السياسي، الأمر الذي دفع العلمانيين إلى الاهتمام بالتراث أكثر من أي وقت مضى، ليس من أجل خدمته ولكن من أجل العبث فيه، وتطويعه حتى يتلاءم مع مشروع العلمنة الذي يقلدون فيه الغرب ويأتمرون بتوصياته لإخضاع الشعوب المسلمة لما ينتجه من أفكار وما يريده من قوانين وتوجهات في بلداننا.
هذا المشهد التقطه المؤرخ ألبرت حبيب حوراني(*) (1334-1414هـ/ 1915-1993م) وقد عايش كل الحراكات التي كانت تبحث عن الطريق إلى النهضة العربية، فقال: “وكل الأقطار العربية قد شغل بالبحث والمناقشة حول أمثل الطرق والأساليب للنهوض واستعادة القوة والتخلص من أسباب الضعف وآثاره، ولم يكد الخلاف فيها جميعا يخرج عن اتجاهات ثلاثة:
-اتجاه يدعو إلى العودة لينابيع الإسلام الأولى.
-واتجاه آخر يدعو لاحتذاء الغرب وتتبع خطاه.
-واتجاه ثالث يدعو إلى إسلامية متطورة يفسر فيها الإسلام تفسيرا يطابق الحضارة الغربية وأنماطها وتقاليدها”(**).
ولعل علمانيي “آخر ساعة” وغيرهم ممن لا يملون من الكتابة عن الإسلام واللحية والنقاب وكل مظاهر التدين ويعادون كل التيارات الإسلامية، يدخلون في الاتجاه الثالث الذي ذكره “حوراني”، حيث نراهم يؤمنون بحقوق الإنسان وكل ما تنتجه الآلة الحقوقية الغربية من أوفاق ولوائح وقوانين أكثر من إيمانهم بالقرآن والسنة، ويعادون كل من يريد إحياء ما اندثر من تعاليم الإسلام، الأمر الذي دفعهم إلى تقسيم المغرب والمغاربة إلى فسطاطين:
الأول: فسطاط الإسلاميين، ويضم كل من يرى ضرورة الرجوع إلى الينابيع الصافية للإسلام وينشر تعاليمه في المغاربة سواء شارك في السياسة أم لا.
الثاني: فسطاط المسلمين، وهم كل مغربي لا يعمل على استرجاع مكانة الإسلام وشريعته على كل المستويات، سواء كان مؤمنا أم علمانيا ملحدا، وسواء صام وصلى أم أكل أيام رمضان وترك الصلاة؛ المهم ألا يعادي العلمانية ولا يطالب بالانتصار لحق الإسلام في أن يحكم.
لكن العلمانيين لا يقفون عند هذا الحد بل بين الفينة والأخرى يهجمون على الثوابت الدينية، وكان آخرها انخراط “آخر ساعة” في عمليات الحرب القذرة الموجهة في الظاهر ضد صحيح البخاري وصحيح مسلم وكتب السنن والمسانيد ودواوين الحديث الشريف، لكنها في الحقيقة تستهدف شريعة الإسلام وتروم انتهاك جناب رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث تم التعريض بجنابه الكريم، ووصفه بأقذع الأوصاف.
ومهما يكن فالعبث بأحاديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو انتهاك لقدسية جنابه الشريف.
ولأنها ليست المرة الأولى التي يعيث فيها العلمانيون فسادا في تراث المغاربة ومراجع عقائدهم وشريعتهم، ولن تكون الآخرة في ظل هذا التسيب الذي يشهده الإعلام المغربي، آثرنا أن نخصص هذا العدد لكشف شبهات العابثين، وتفنيد أكاذيب المرجفين.
ويبقى العجب يكبر حتى يبلغ منتهاه من هذا الصمت الرهيب الذي يلف مواقف الوزارة المعنية بتدبير مهام حماية الملة والدين، وكذا باقي المؤسسات الدينية والعلمية التي فضلت أن تراقب الوضع من خلال شرفات بناياتها وكأن الفضيحة في بلدان الجوار.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) هو إنكليزي من أصل لبناني متخصص في تاريخ العرب والشرق الأوسط.
(**) محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر 6/1.