حَنِينُ الشَّوْقِ وَشَوْقُ الحَنِين عبد الحكيم فرحي

نعم الأنيس في زمن طغت فيه الأنانية، نعم الصديق في عالم أضحى الكل فيه ذئابا تطارد قطعان الأغنام في غاب لا نهاية له ولا حد، صاحب سر لا يبوح، أمين لا يخون… حينما يلوح الليل بظلامه، تتلألأ نجوم الفكر في سماء المكتبة، العتمة في الخارج لكن في رحابها يحلو السمر، في الخارج يفوح النتن، لكن في أحضانها يعبق شذى الزهر، سكون مطبق يكسر صمته تقليب الأوراق بين الفينة والأخرى، يقولون لي أيها السجين رفقا بنفسك؟ أيها الخفاش أخرج إلى نور الشمس، أيها التعيس أخرج إلى الربيع وانتشي عرفه…
ابتسمت في وجوههم، فغاظهم ذلك، ولسان حالهم يقول: إن به مس أو تلبس به شيطان، نعطيه الدواء، فيأبى إلا أن يرمينا بنظرات شزراء، يا ساداتي لا تعجبوا من أمري، فأنا في رياض لو علم بها الملوك لجالدوني عليها، أنتقل من زهرة إلى زهرة، أجمع الرحيق وأجعل منه عسلا حلوا سائغا لذة للشاربين، كل يوم مجلس، كل يوم حلقة، أجالس فيها العظماء، من أنبياء وصحابة وتابعين، أستمع إلى الحكماء وما جادت به القرائح على مر السنين، نقلب صفحاته فيحدوا بنا الشوق، ويلهبنا الحنين إلى سيرة هؤلاء الأماجد، فهي ليست مجرد أحداث تروى أو أفكار تطوى، وإنما هي للأسوة والقدوة، إنما هي خارطة طريق نحو أفق قد رُسمت معالمه، ما علينا إلا أن نمضي في هذا الركب، وحسبك به من ركب خِرِّيتٍ بالشعاب، خبير بكل قطر وزاوية، وكلنا حذر فيما وقعوا، وعلى أُهبة الاستعداد لنشدان الغاية التي رسموا، وحمل الراية التي رفعوا، راية ترفرف كلما هبت نسائم الحرية، راية تخفق بالوئام لكل من هم على أرض البسيطة، تدلها على النور الخالد، وتغدق عليها بإكسير الحياة…
آه من زمن الفاتحين، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ما دغدغ نفوسهم حطام الدنيا الزائل، ولم يلح في خلد أي منهم علو منزلة ورفعة وشأن، إنما بذلوا النفس والنفيس من أجل أن تزول تلك الظلمة الحالكة التي تعاقبت على تلك الأصقاع، فعششت فيها صنوف الشرك والشعوذة، وخيم فيها الجهل حينا من الدهر، فاستنارت بعد ظلمة، وأشرقت بعد عتمة…
هذه جولة قصيرة وكأنك تسافر عبر ساعة الزمن، سياحة وأنعم بها من سياحة، أوَ سمعت عن تأشيرة تأخذك لكل مكان؟ أَوَ سمعت مسافرا يزور مناطق شتى في لحظة واحدة؟ هل سمعت عن مركبة تتوفر على أرقى شروط السلامة؟… تركب المركبة وتمخر عباب هذا الكون الفسيح، فلا غثيان ولا تعب، بل تقضي الساعات الطوال وأنت تطلب بأن لا ينتهي هذا السفر، تتمنى لو تأخذك هذه المركبة إلى وجهة مجهولة، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فأنت يكتنفك الفضول وحب الاكتشاف مثلي تماما وأنت تقرأ هذه السطور، تبحث عن حياة ثانية وتتمنى لو بقيت محلقا في سماء المعرفة، وقد صدق العقاد حين قال: “لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمراً في تقدير الحساب.. وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، والقراءة -دون غيرها- هي التي تعطيني أكثر من حياة، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *