قيل الشكر قيد للنعم الموجودة، وصيد للنعم المفقودة، والشكر شطر الإيمان، وجوده عربون زيادة، وجحوده نذير سلب وانتكاس، وهو عند الدواب ظهور أثر السمن فوق ما تأكل، وعند بني آدم ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناء واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة (المدارج).
وقد قرر الله سبحانه وتعالى حكمه العادل في علاقة عباده مع هذا المقام السني والمنزلة الرفيعة بقوله تعالى من سورة سبأ: “وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ”، وأهل محلتي في حل عقد مع هذه القلة وخصومة عهد مع هذه الثلة الشاكرة، ذلك أنهم في بداية كل سنة ينصبون أكف الدعاء ويتضرعون لملك الأرض والسماء، ويناجون منزل الماء، ويستمطرون سحائب كرمه، ويطرقون باب رحمته، يلحون في الطلب ويجمعون لهذا الغرض المسيس كل نفس زكية ويجردونها من النعال لتمشي حافية، ويلبسونها أسمالا مناسبة لمقام الدعوة ومظهر الحاجة، نفوس زكية تحمل ألواحا قرآنية وتردد أدعية مأثورة، وأخرى جرى عرف المغاربة بمناجاة ربهم بها..، وتترادف الأحداث في جو من الخشوع ودرجة من العزم والإلحاح، فتصدع منابر الخطباء استغاثة بمحيي الأرض ومنزل الغيث إلى أن تأتي استجابة رب السماء فينزل الله غيثه ومننه، ويسقي عباده وبهيمته، وتملأ السدود وتكسى الأرض حلة الحياة، وتنصب أقلام الإحصاء، ويسال حبر التقديرات، ويتجاوز المحصول عتبة الكيل المعهود، ويتعجل الناس أكل الثمرة، ويتوسم الفقير ضبط سعر الشراء على سقف القوام المطلوب والبخس المرغوب..
وعند هذه النقطة من هذا السبيل القويم والعطاء الحكيم، تنعرج الأمور ويصاب خط المنة بالإقعاد الذي توعدنا به إبليس اللعين، وتتحرك سخائم الجحود وتتهاوى القيم باسم الثقافة، وتتساقط أوراق المن باسم الفرجة والفن، ويتنكر أصحاب السفينة لفريضة الشكر بالشيء المنكر، ولا غرابة فإن المدارس المادية ومناهج الفلسفة الإلحادية قد فرخت لنا بيضة سياستها رعيلا من المثقفين، بصيرتهم بالإسلام كليلة، وعروة معرفتهم بالوحي عليلة، وقوة ارتباطهم برازقهم ضحلة مشلولة، وميولاتهم لتطبيق أحكامه كسيحة معدومة.
فبمجرد إدبار موسم الشتاء وإقبال موسم الحصاد، موسم الجد والوجد تطفو على السطح الملامح الجديدة للحمد الحداثي، وتظهر على الساحة سمات الشكر المدني، وبرامج الشاكرين الجدد الذين بدلوا نعمة الله جحودا ونكرانا، واستبدلوا الأدنى بالذي هو خير، فأما مسرح العطاء أرض البركة، فإنهم فتحوا للفلاح باب الجحود حتى نسب النعمة لغير مسديها وبارئها، فنصبت السرادق، وأشعلت السرج على القباب والأضرحة، واستعد المنعم عليهم للوفاء بالنذور فذبحوا لغير الله على القبور ظنا منهم أنهم أمطروا ببركة المقبور، أما أهل الشهوات فاجتمعوا على بريد الزنا، واختلطوا ذكرانا وإناثا استجابة لصوت الشيطان وداعي البغي والطغيان.. شرك.. ، وبدعة.. ومعصية..
وأما مدينة المبيع، وأرض العالة، وبساط العمران، فقد شمر بنو الجلدة على سواعدهم لإقامة المهرجانات الماجنة، والسهرات الداعرة، واستقطبوا لذلك من كل زوايا الأرض، كل سافرة ماجنة، وكل متهتك ماكر، وأغدقوا عليهم من ثمن القمح وعرق شراب الشاي من بسطاء الشعب، ضحايا فاتورة الكراء والماء والكهرباء.
وفضل آخرون إقامة السباقات النسوية على الطرقات وجمعوا لها السيقان العارية رغبة منهم في تعليمنا القيم، والدفع بعجلة المجتمع نحو التقدم والحداثة، وأقام آخرون مهرجانات الأفلام الساقطة المقبوحة، حتى يتسنى للتلميذ والطالب أن يواجه امتحاناته بإحساس بطولي، وشعور مرهف، وفكر سينوغرافي!
وهكذا عمت المصيبة البادية والمدينة واختلط حابل الظلمة بنابل الجهالة المركبة، حتى صار لكل بادية قبر يزار، وقرابين تهدى، وصار لكل مدينة مهرجان تشد إليه رحال الراغبين في المتعة واللذة المفقودة، لذة صار يرسف في أغلالها شبابنا وتتشحط بين ثنايا لهيبها فتياتنا، لذة تساقطت من شؤمها قيمنا العظيمة لفيفا بعد لفيف، وذلك في الوقت الذي يتبجح فيه المدلسون، ويلبسون شارة الغيرة على حمى الوطن العزيز، والحرص على السلامة الروحية لأفراده من تهديد دور القرآن!!
وحتى لا نحمِّل شماعة القوم فوق ما تطيق، ونحن نعلم أن عودها رخو، وماؤها سراب، ونعلم أيضا أن تخطي هذه التجاوزات منوط بإرادتنا الحرة الشريفة، فعلى التسليم أنهم أقاموا موازينهم الخاسرة، واستقدموا هيفاء وميساء وعجفاء، ونصبوا المنصة، وأناروا ظلماتهم، وملئوا جوانب الطرقات بالألواح الاستشهارية المتفسخة، ثم بعد خلطة الخبال هذه، أمسكنا نحن الكثرة عن القدوم، وأعرضنا عن الحضور، وأشهرنا سلاح المقاطعة في وجه هذه الصور القميئة، والمظاهر الدنيئة، أتراهم يقدمون بعد هذا الفشل الذريع، ويستطيعون تكرار نصب موازينهم الخاسرة السنة القادمة؟!
سؤال نواجه به كل غافل غيور، ونجعل آثار الإجابة عنه في نحر كل صاحب سعي مثبور، والله غالب على أمره، ورمضان الناسخ لكل مقبوح نفحاته قد أطلت، وأغلال رحماته لكل شيطان قد أعدت..