سبق أن بيَّنا أن مصطلح الانفتاح فيه غموض وضبابية، ويتضمن معان سلبية في فهم طبيعة الدين ومقوماته. ولكن سنستعمل هذا المصطلح بمعناه العام الذي يدل على معنى الاطلاع والاستفادة مما عند الآخرين وترك الانكفاء على الذات والانغلاق عليها. وهذا المعنى العام يمكن تطبيقه بشكل صحيح إذا روعي فيه الضوابط الآتية.
من حيث المبدأ فإن الانفتاح على العالم فكريا وثقافيا.. له آثاره المفيدة في العلوم الدنيوية إذا كان ممن التزم بدينه وعقيدته ولا يخاف عليه الضلال، أما المطالبة بشكل عام من الانفتاح على الآخر دون تحديد لنوعية القضايا التي يتم فيها الانفتاح، ونوعية المُطالب به فليس كل أحد يقدر على أخذ المفيد وترك الزغل؛ فهذا لا شك في خطأه وبعده عن الصواب، ومنافاته للمحافظة على الخصوصية التي تميز بها المسلمون عن غيرهم. ولذا فلا بد من وجود ضوابط أثناء الانفتاح على الثقافة والمعارف بشكل عام، ولعلنا نوجزها في ما يلي:
أولاً: أن يكون الانفتاح بعد العلم الشرعي
فإن العلم بالشريعة الإسلامية ضرورة لمعرفة دين الإسلام وتطبيقه والعمل به، وهو أيضاً ضرورة للانفتاح الفكري على الثقافات والآداب غير الإسلامية. فالانفتاح المفيد يكون بعد تصور عقيدة الإسلام وأحكامه تصوراً صحيحاً، والثقة بها، ورَدِّ كل ما يخالفها من عقيدة أو عمل. أما الانفتاح قبل العلم فإنه مزلق خطير يجعل صـاحبه يتخبط في الأفـكار والمناهج و الفلسفات، ويقع فيما يخالف ويناقض أصول دينه، ومن أقل آثاره الشك في صحة دينه والشعور بالنقص نحوه. وهذا هو أحد أسباب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب والإنكار عليه عندما رأى في يده صحائف من التوراة فقال له: “أمُتهَوِّكُون فيها يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقيّة، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني” (رواه أحمد بسند صحيح). ومعنى (مُتهَوِّكُون أي: متحيرون)، فيكون هذا النهي عن قراءة كتب الشرائع السابقة وعموم المعارف دون علم بالشريعة، أو قراءتها للاهتداء بها.
ثانياً: أن يكون الانفتاح مع الالتزام بالإسلام والحفاظ على الهوية
الإسلام دين شامل لكل جوانب الحياة الإنسانيّة: الروحية والمادية، الفردية والجماعيّة، العلمية والعملية، وهو دين ثابت في قواعده وعقائده.
فالانفتاح والتطور والتجديد والعقل والإبداع ونحو ذلك، لا يمكن أن تصادم هذا الدين إذا كانت صحيحة وحقاً، أما إذا كانت باطلاً فمن الطبيعي أنْ يعارض الباطل الحق، والخطأ الصواب، وكل ما سبقت الإشارة إليه يعود إلى (العقل)، وقد قرر العلماء استحالة ورود العقل الصريح مناقض للنقل الصحيح، فإما أن تكون دلالة العقل غير صحيحة فهي غير مقبولة أصلاً، وإما أن يكون النص غير صحيح أو غير صريح في دلالته، وحينئذٍ فالدين موافق للعقل لأن الجميع من عند الله تعالى.
لقد فطن شيخ الإسلام ابن تيميّة لأساس المشكلة عند دعاة الانفتاح والتطوير والتجديد وهو (تعظيم العقل)، وسوء الظن بالنقل، ولهذا ردوه أو أولوه وحرفوه، فبين التوافق والانسجام للعقل مع النقل، وبين عظمة النقل واتساقه مع حاجات الإنسان النفسية والعقليّة والاجتماعية، وهذا ما لم يتصوره هؤلاء ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث فيه وإدراكه.
وما زالت المشكلة قائمة إلى اليوم وإن اختلفت العبارات فكان الأقدمون يسمونها “تعارض العقل والنقل” أما المعاصرون فقد يغيرون كلمة (العقل والنقل) إلى (العلم والدين) أو (الدين والمدنية) أو (الدين والتطور) أو غير ذلك. والحقيقة أن كتاب “درء تعارض العقل والنقل” علاج لقضايا عصره وعصرنا، وكما أنه رد على الفلاسفة والمتكلمين فهو يصلح أن يكون رداً على دعاة التنوير والعصرانيين. نعم هناك اختلاف في الأمثلة والنماذج المضروبة لكنّ اللباب والقضيّة الجوهرية واحدة.
والمهم أنه يمكن للإنسان الانفتاح والاطلاع والثقافة والإبداع في إطار الالتزام بالشريعة الإسلامية عقيدة وعملاً ومنهجاً والحفاظ على مبادئ الهوية الإسلامية.
ثالثاً: الانفتاح دون الانبهار بثقافة غير المسلمين
الانبهار بثقافة غير المسلمين وآدابهم وأفكارهم ومناهجهم دليل على عدم العلم بالإسلام والاعتزاز به والثقة المطلقة بصدقه ودلالته على الفلاح والهداية في الدنيا والآخرة. وهو من جهة أخرى يدل على ضعف شخصيّة المنبهر، وهزيمة نفسه، وقصور فكره. ومن كانت هذه حاله فلن يتجاوز التقليد المجرد، أما التجديد والتطوير والإبداع والابتكار فلا يمكن أن يحصلها المنبهر حتى يفيق من سكر انبهاره بغيره، ويقوم بنقده نقداً واعياً ليأخذ ما يفيده ويرد ما عداه.
ويمكن للمسلم أن يطلع على ثقافات الأمم الأخرى بعد العلم، ومع الالتزام ودون انبهار ليعرف نعمة الله تعالى عليه، أو للاطلاع على الصناعات والمخترعات المفيدة في قوة المسلمين أو غيرها من المصالح المشروعة. وأي أمة جادة تريد تطوير نفسها لا يمكن أن تسمح بالانبهار بالآخر بين أبنائها.
ولما ذهب جيل من اليابانيين إلى الغرب رجع وهو يلبس الجينز ويقلد الغرب في كل شيء، ذبحهم حاكم اليابان وأرسل جيلاً آخر لم يتأثر بشيء من العادات أو الأفكار، بل تعلم التقنية والتكنولوجيا وطورتها فأصبحت من الدول الصناعية المنافسة.