أولا: المناظرة
لقد كانت المناظرات الفقهية(1) من أهم الأساليب التي أبدعتها الممارسة التربوية الإسلامية، حيث إنها كانت شائعة بين الفقهاء، خاصة زمن المذاهب الأربعة، والمناظرة بصفة عامة يغلب عليها الطابع التقويمي، مقارنة مع ما تعرف به باعتبارها أسلوبا في التدريس. والذي يهمنا في هذا المقال هو ما تعلق منها بالتقويم. ومن أمثلة ذلك، ما حُكي عن أبي طالب القاضي (ت 275هـ) تلميذ سحنون (ت 240هـ)، أنه كان ‹‹حريصا على المناظرة، فيجمع في مجلسه المختلفين في الفقه ويغري بينهم؛ لتظهر الفائدة، ويفهم عن نفسه››(2).
واعتُمدت المناظرات قبل عصر المذاهب الفقهية، كما ذكر الشيخ “محمد الخضري” في كتابه “تاريخ التشريع الإسلامي”، وكثيرا ما حكى الشافعي (ت204هـ) منها بينه وبين محمد بن الحسن (ت189هـ) فقيه العراق(3). إلا أن المناظرة اختلفت أغراضها والفائدة منها عبر العصور، ففي بدايات ظهورها كان غرضها الوصول إلى استنباط الحكم الصحيح، واتباع الحق حيث ظهر، أما مع ظهور المذاهب فقد تغيرت أغراضها من حيث المبدإ والدافع إليها وفي النتيجة.
وانطلاقا من هذا التغيُّر الذي أعطى أهمية كبرى للمناظرة الفقهية، تم اعتماد هذا الأسلوب في التعليم الفقهي، فكان “من أظهر مميزات أساليب التعليم في المراحل العالية، شيوع المناظرة، ولعلها من أخص مميزات التربية في تلك العصور”(4).
يظهر أن هذا الأسلوب كان يستعمل أثناء المراحل المتقدمة من الطلب الفقهي؛ لأنه يحتاج إلى مهارات عليا ومعارف واسعة ومنهج قويم؛ حتى يستطيع الطالب استثمار ذلك كله أثناء المناظرة الفقهية.
وواضح أيضا أن المناظرة ارتبطت كثيرا بعلم الفقه؛ نظرا لكونه علما مرتبطا بالكتاب والسنة مباشرة، ولظهور المذاهب الفقهية التي كانت السبب في تثبيت هذا الأسلوب وإغنائه وتطويره؛ حتى أصبح من مميزات الفكر التربوي الإسلامي، يقول الإمام الماوردي: “وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر، لأنه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع على الأصول للحاجة إلى ذلك”(5).
واعتَمد الفقهاء هذا الأسلوب لتقويم مكتسبات الطلبة، وكان ذلك مطلوبا عندهم زمن التعليم بالمساجد، فقد “استحب أن يخص يوم الجمعة بالمذاكرة لأصحابه في المسجد الجامع، وإلقاء المسائل عليهم، ويأمرهم بالكلام فيها والمناظرة عليها”(6).
ثانيا: المذاكرة
إذا كانت المناظرة يغلب عليها الطابع التقويمي؛ لأنه يُلتجَأ إليها -في الغالب الأعم- خلال المراحل المتقدمة من تعلم الفقه؛ فإن المذاكرة يغلب عليها الطابع التدريسي بحكم اعتماد هذا الأسلوب في جميع مراحل الطلب الفقهي؛ إلا أن المذاكرة تستهدف كذلك تقويم طالب الفقه والتأكد من مكتسباته، خاصة إذا كانت أمام نظر المدرس.
لذلك دأب الفقهاء على توجيه طلبتهم إلى أفضل طرق المذاكرة والتحصيل خلال حصص (الدرس الفقهي)، وبعد الانتهاء منه من أجل التثبيت والتقويم، قال ابن جماعة: “وينبغي أن يتذاكر مواظبو مجلس الشيخ ما وقع فيه من الفوائد والضوابط والقواعد وغير ذلك، وأن يعيدوا كلام الشيخ فيما بينهم؛ فإن في المذاكرة نفعا عظيما”(7).
إن المذاكرة أسلوب يساعد على تثبيت المعارف، وشحذ المهارات والقدرات، ويساعد على التنظيم والتحليل والفهم الجيد، كما يمكن الطالب من الوقوف على نتائج تعلمه عن طريق مقارنة فهمه مع فهم الآخرين ومكتسباتهم؛ لذلك “لابد لطالب العلم من المذاكرة، والمناظرة والمطارحة… فإن المناظرة والمذاكرة مشاورة، والمشاورة إنما تكون لاستخراج الصواب”(8).
إن إفادة الطالب من زملائه من خلال المذاكرة، يجعله يثبت معارفه وهذا لا يخلو من تقويم لنتائج تعلمه بالتبع، يقول الإمام الماوردي: “المذاكرة تثبت العلم: وقال بعض العلماء: من أكثر المذاكرة بالعلم، لم ينس ما علم واستفاد ما لم يعلم”(9).
نخلص إلى القول:
– إن المذاكرة أسلوب للتدريس والتقويم تحت نظر الأستاذ.
– المذاكرة أسلوب للتقويم الذاتي للطالب من خلال المناقشة مع أقرانه.
– المذاكرة أسلوب للتقويم الأفقي بين الطلبة أنفسهم، من خلال عرض محفوظاتهم وأفهامهم بعضهم على بعض.
– المذاكرة وسيلة مهمة لتثبيت المعارف في ذهن الطالب، والإفادة من الآخرين والاستزادة من العلم.
على سبيل الختم:
أود أن أتساءَل معك أيها القارئ الكريم، أيها الطالب المُجد، أيها الأستاذ الباحث؛ لماذا تخلّت جامعاتنا عن مثل هذه الأساليب التدريسية التراثية، التي أنتجت أفواجاً من الفقهاء المجتهدين على مرِّ العصور؟
ألا يصِحّ أن نُفيد من الجوانب المضيئة في الفكر التربوي الإسلامي، ونستصحب مواطن القوة فيه في زماننا؟
لم تكن المناظرة والمذاكرة، من بين أهم الأساليب التي أسهمت في اكتساب الطلبة للمَلَكة الفقهية؟ أم أننا صرنا نقلد الغرب في كل شيء، حتى في استيراد نظرياتهم التربوية بحذافيرها، دون غربلة أو دراسة أو نقد علمي لها.
إنني لا أدعو إلى سد جميع الأبواب أمام المستجدات التربوية الحديثة، والتي لا يمكن إغفالها بحال من الأحوال؛ إلا أني في الوقت نفسِه أدعو إلى الإفادة أولا، من حسنات تراثنا التربوي وما توصَّل إليه علماؤنا الأفذاذ في هذا المجال مثل: الإمام الغزالي وابن خلدون والشاطبي وابن جماعة والقابسي والخطيب البغدادي والزرنوجي والماوردي وغيرهم؛ ثم بعد ذلك، لا مانع من استلهام روح التجارب التربوية الحديثة، التي لا تتعارض مع طبيعة العلوم الشرعية عامة وعلم الفقه على وجه الخصوص؛ ويكون المقصد النهائي هو الدمج بين هذه وتلك، والإفادة من إيجابيات الفريقيْن؛ من أجل تطوير الدرس الفقهي تدريسا وتقويما داخل الجامعات. فكما يقال: “ما كل قديم مذموم، وما كل جديد منبوذ”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) – يعتبر هذا الأسلوب من مميزات المجالس العلمية الإسلامية، نظرا لماله من دور كبير في شحذ الذهن وتقوية الحجة وإذكاء روح المنافسة والثقة بالنفس. ويعزو ابن خلدون (ت 808هـ) الركود الفكري الذي شاع في بلاد المغرب خلال القرن الرابع عشر الميلادي، لطرق التدريس الرديئة التي أُهملت فيها المناقشة والمناظرة.. (انظر المقدمة، بتحقيق درويش الجويدي، المكتبة العصرية، صيدا بيروت، 2012 ص527). ويَرى الزرنوجي (ت 591هـ) أن فائدة المطارحة والمناظرة أقوى من فائدة التكرار، وأن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من قضاء شهر بكامله في التكرار والحفظ (انظر: “تعليم المتعلم طريق التعلم، للزرنوجي، برهان الإسلام، تحقيق مروان قباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1/ 1981م، ص 102 وما بعدها).
(2) – “ترتيب المدارك وتقريب المسالك”، القاضي عياض (ت 544هـ)، ج4/ ص 309.
(3) – انظر “تاريخ التشريع الإسلامي”، محمد الخضري بك، ص 481.
(4) – “التربية عبر التاريخ”، عبد الله عبد الدايم، ص187.
(5) – ” أدب الدنيا والدين”، الإمام الماوردي؛ ص 363.
(6) – “الفقيه والمتفقه”، باب “إلقاء الفقيه المسائل على أصحابه”، الخطيب البغدادي، ج2/ ص 274.
(7) – ” تذكرة السامع والمتكلم”، لابن جماعة، ص117.
(8) – ” تعليم المتعلم طريق التعلم”، للزرنوجي برهان الإسلام، ص103.
(9) – ” أدب الدنيا والدين”، الماوردي، ص57.