لابد لكل بناء من أساس يقوم عليه، ومن دعامات وأساطين يستند إليها، وإن أسمى وأحق شيء بأن يشيد ويبنى هو الإنسان، ومهمة التشييد بلغت من التعقيد ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة من المربين، فيكون حالهم معه ما بين مسدد ومقارب، وهنا مكمن الصعوبة لأن النشء قد تعددت مشاربه، ومحاولة حصر الجانب النفسي السيكولوجي في بعد واحد يكون مآله الضبابية، بل كأنه سراب يعسر وجوده، فنفسه دائمة التقلب والتغير لا تثبت على حال ولا تستقيم على منوال، إن المعرفة التي يتغذى عليها المتعلم تمثل نبض القلب والقلب هو مهاراته، لكن هذا القلب لا يتحرك بدون دم، وهذا الشريان الذي يمده بالدم هو شريان القيم وحسبك به من شريان. فهل يمكن القول بأن المعارف والمهارات كافية لبناء شخصية المتعلم، وفي غياب تام للقيم؟
إن الاهتمام كان بالغا في تنمية الجانب المعرفي على اعتبار أن الثقافة الموسوعية هي الأساس لبناء الشخصية، وفي الحالة هذه نجد أن هذا الذي تلقى المعارف وَشُحن بها أيما شحن يظل حبيس أركانها لأنه لا يعدوا أن يكون سوى مردد لها فحسب، وكم ساد هذا التصور لردح من الزمن، حتى ظنه الناس أنه كل شيء، لكنه تبين فيما بعد أنه جزء في البناء لا كل البناء، ولا يمكن إغفال دور المعارف في عملية بناء شخصية المتعلم، إلا أنها تحتاج إلى من يوجه خطاها في زحمة كثرة المحتويات، وهذا الموجه هو الجانب المهاري الذي يستطيع المتعلم من خلاله توظيف معارفه التي تلقاها، فلن تبقى قابعة في قَبْوٍ معتم، بل تتجلى واضحة من خلال تجسيدها على أرض الواقع سلوكا، والذي يوجه هذا السلوك هي القيم، وهذا التكامل والترابط الوثيق بين هذه الأركان هو الذي يبني متعلما متكاملا.
وحين الرجوع إلى تاريخ إصلاح التعليم لاستنطاقه نجد أن المنظومة التربوية قد ساد فيها بعيد حصول المغرب على الاستقلال بيداغوجيا المضامين أو ما يعرف بالمقاربة بالمحتوى؛ وكانت سمتها بادية في الشحن والتلقين المستمر للمتعلم، وهو لا يعدوا أن يكون سوى معيد ومكرر لما لُقِّنه، وذاته غائبة في العملية التعليمية في سيطرة تامة للمدرس لكونه المالك للمعرفة، وما على المتعلم إلا أن ينصت، وألا يحرك ساكنا، وأمام هذه الوضعية التي طفت على السطح اتسمت بالارتجال الطافح، والعشوائية المقيتة، كان لابد من بعث نفس جديد في المنظومة التعليمية وذلك بإدخال بيداغوجيا الأهداف لتصحيح المسار ورأب الصدع الذي أحدثته العشوائية، فطبعت هذه العملية بالتخطيط والتنظيم، وقطعت مع الارتجالية.
فالمدرس يعمل على التخطيط والتحضير للدرس بغية تحقيق الأهداف ورصدها عن طريق التقويم، فحينما يلجأ المدرس إليه، يتبين ما مدى تحقق الأهداف من عدمها، وما مدى تمثل المتعلم لها؟ تأتي بيداغوجيا الكفايات لأجل إدماج تلك المكتسبات والمعارف السابقة وتجسيدها على أرض الواقع، فهل يكفي أن تُقَوم تلك المعارف؟ ونجنح إلى القول بأن المتعلم قد تحققت لديه الكفاية.
إن الذي ينبغي التنبيه عليه هو أن المعارف والمهارات لوحدها لا تكفي لبناء شخصية المتعلم، بل لابد أن ينضاف إليهما ركن أساسي وضروري وهذا الركن هو القيم، فإذا تمكن المتعلم من المعارف وتجلت صورتها أمام ناظريه، واكتسب مهارات عالية ولم يكتف بما في خلده، بل يكون قد جسده عيانا، ثم تأتي القيم لتأتيت فضاء العمل، وتوجه المسير في بعد شمولي، ولا ينفك أحد من هذه الأركان عن بعضها البعض، بل لابد أن تتكامل وتتضافر فيما بينها حتى يتمكن المتعلم من الإحاطة الكلية، فلا يبقى حبيس المعارف، ولا يلهث وراء تحقيق المهارات فقط، بل يكلل عمله هذا بأن يتشبع بالقيم، فما هو مفهوم القيم؟ وما موقع المتعلم في منظومة التربية على القيم؟
إن الناظر في مفهوم القيم ليجده قد عرف تعاريف شتى، كل يعرفه حسب خلفيته التي يحتكم إليها، ونزعته التي يأوي إليها، فلم يجمع الأمر على تعريف يكون محل اتفاق، ومكمن الصعوبة هو وجود مذاهب ومشارب مختلفة، فيكون تناول هذا المفهوم مطبوعا بحمولة المرجعية التي يستند عليها، لكن حسبنا أن نورد تعريفا للدكتور خالد الصمدي الذي يقول فيه: “القيم هي معايير ومقاييس لتقويم سلوك الفرد”.
فبالرجوع إلى الوثائق التربوية نجد أن القيم قد حظيت بالنصيب الأوفر لا سيما في الميثاق الوطني للتربية والتكوين من خلال المرتكزات والغايات الكبرى في القسم الأول، وكذلك الكتاب الأبيض في جزئه الأول، وتحديدا في الجزء المتعلق بالاختيارات والتوجهات في مجال القيم، والتي نجملها كالآتي:
-قيم العقيدة الإسلامية السمحة.
-قيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية.
-قيم المواطنة.
-قيم الهوية الحضارية.
فهذه هي القيم التي يُنتظر أن تترسخ لدى المتعلم ويتشبع بها، وهذه مهمة أعقد ما تكون، لكونها تحتاج إلى تضافر الجهود، وتكثيفا للإرادات الراشدة التي تصبوا إلى تحقيق التنـزيل السليم، والتوجيه المحكم القويم للقيم، فالقيمة تبدأ من المستوى البسيط إلى آخر عال رفيع، فلابد من مراعاة حاجات المتعلمين، ومستوى القيمة الذي يناسبهم، “فقيمة الحق” مثلا تبدأ من إدراك المتعلم للحق في مستواه الأول كالحق في اللعب والأكل والرعاية… إلى أن يصل إلى الحق في التعبير وإبداء الرأي.
فالقيمة نفسها لا تتغير وإنما مجالها الذي تعيش وتحيا فيه، والمؤشرات الدالة عليها هي التي تتغير وتتطور. وتقسيم هذه المجالات هي بحسب الفئة العمرية للمتعلم التي سماها الخبير التربوي “خالد الصمدي” بالدوائر الأربعة للقيمة، وهي كالتالي:
الدائرة الذاتية، الدائرة الجماعية، الدائرة الوطنية، الدائرة الكونية.
الدائرة الذاتية: وفيها تظهر القيمة في شكل قناعات فردية للشخص التي تضبط علاقته بخاقه وبنفسه مثل قيمة الصدق والإيمان والتقوى والإخلاص، وغيرها من القيم التي يحرص الشخص على التمسك والالتزام بها أولا في نفسه قبل أن يدرك أهمية إظهار تجلياتها وأثرها في سلوك خارجي جماعي.
الدائرة الاجتماعية: وفيها تتطور القيم لتطبع سلوك الفرد في علاقاته العامة ولا تظهر آثارها إلا من خلال التفاعل مع الغير وتنمي هذه القيم في السياق الجماعي والاحتكاك بالآخر، ومن ذلك القيم التي تأخذ صيغة التفاعل كالتراحم، والتعاون، والتواضع…
الدائرة الوطنية: وهي دائرة تتجاوز فيها القيم العلاقات الاجتماعية الناتجة عن الاحتكاك مع المحيط المحدود والمباشر إلى الإحساس بالقواسم المعنوية المشتركة التي تجمع الجماعات المتباعدة وتتجلى هذه القواسم بالأساس في الدين والانتماء الجغرافي، ومن ذلك قيم حب الوطن والافتخار والاعتزاز بالمقومات الحضارية، والتضحية من أجل حماية الخصوصية الدينية والثقافية، وتعتبر هذه القيم أساسا لبناء الكيانات وضمانا لاستمرار وجودها.
الدائرة الإنسانية والكونية: وهذه الدائرة تتجاوز فيها القيمة حدود العلاقات الاجتماعية والخصوصيات الحضارية لشعب من الشعوب أو أمة من الأمم، لتنفتح على البعد الكوني لتصبح معايير ومقاييس للتعامل مع الآخرين باعتباراتهم الإنسانية التي يشترك فيها كل الناس بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية والحضارية، كالعدل والحرية، والمساواة في الكرامة الإنسانية… وتنمى هذه القيم في سياق الاحتكاك العلمي والثقافي والاجتماعي بالأمم والشعوب الأخرى بصفة مباشرة، أو غير مباشرة .
هذه الدوائر الأربعة تجعل المتعلمين يتعرفون على القيم لكن لترسيخها لابد من سلك مجموعة من المراحل التي ذكرها الدكتور “خالد الصمدي” في كتابه “دليل تنمية القدرة على تدبير الاختلاف” وهي: “الانتباه، الاهتمام، التفاعل، الاقتناع، الدفاع، نقل القيمة” .
فإذا قمنا بتنزيل هذه المراقي الست على مؤسسة تعليمية ما، فإنه لا محالة ستكون هناك مؤشرات إيجابية تظهر جليا في سلوك المتعلمين، لأن التأكد من ترسيخ القيمة لا يمكن ملاحظته إلا من خلال التصرفات التي تصدر عن المتعلمين.
إسقاط (سلم المراقي الستة) للقيمة على مؤسسة تعليمية:
على سبيل المثال “قيمة الصدق أنموذجا”.
فريق عمل بالمؤسسة يضم (الإدارة -الأساتذة- جمعية الآباء وأولياء التلاميذ) يعملون على تفعيل المشروع من خلال التركيز على قيمة الصدق وذلك باتباع المراقي الستة.
بدأوا بوضع ملصقات في كل ركن وزاوية من المؤسسة فيها حديث نبوي يحث على “الصدق”.
مراحل تطور القيم لدى المتعلمين:
الانتباه: بعد دخول المتعلمين إلى المؤسسة وجدوا هذه الملصقات في كل جهة وناحية، مما أثار حسهم الفضولي، وكانت لديهم رغبة جامحة، لماذا تم وضع هذه الملصقات.
الاهتمام: بدأ المتعلمون يطلبون التفسير والمزيد من المعطيات حول الموضوع، فبادروا إلى استفسار الإدارة والحراس العامون.
التفاعل: مرحلة المساهمة والمشاركة في مزيد من المعطيات حول الموضوع، وبعد تعرفهم على الصدق أصبحوا بدورهم يتفاعلون مع القيمة من خلال أدائهم لعمل مسرحي يجسدون فيه مكانة الصدق، وخطر الكذب. ويقومون بإعادة نشر تلك الملصقات على حائطهم الفيسبوكي.
الاقتناع: تبني مواقف من قضايا تعرض لديهم بحيث يعبرون على نفورهم التام من التلاميذ الذين عرف عليهم الكذب.
الدفاع: ردود أفعال على مثيرات خارجية كأن يدافعوا وبشدة عن دينهم كأن يقوم أحد بنشر صور كاذبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فتثور ثائرتهم جراء هذا الفعل المشين، وقد يكون الدفاع هو التوجه بالنصح والإرشاد لمن عرف عنه الكذب حتى يكف ويحجم عنه، ويتبع بالصدق، فالهدف من هذه المرحلة هو صدور ردود أفعال فقط.
نقل القيمة: المبادرة الحرة الواعية في التعريف بالقيمة والتي تصدر عن الشخص بشكل تلقائي ويتمثل بتلك القيمة في أسرته ومع أقرانه ومحيطه ويكون صادقا مع أصدقائه، والمجتمع أجمع، لترسيخ قيمة الصدق في بعدها الحضاري، فتكون هذه القيمة حلا لمجموعة من المشاكل التي تعتري المنظومة التربوية، فضلا عن مساهمتها في رقي المجتمع.
حاصل القول، أو كما قلت سلفا إن المعارف والمهارات لوحدها لا تكفي لبناء شخصية المتعلم، بل لابد أن ينضاف إليهما ركن أساسي وضروري وهذا الركن هو القيم، فلابد أن تتكامل وتتضافر فيما بينها حتى يتمكن المتعلم من الإحاطة الشمولية، ويتحقق لديه التعلم، فلا يبقى حبيس المعارف، ولا يلهث وراء تحقيق المهارات فقط، بل يكلل عمله هذا بأن يتبشع بروح القيم، فإذا شيد البناء على هذه الشاكلة، كان ثابتا لا يتزحزح، وراسخا لا يتهادى، أمكن القول بأن المتعلم قد حقق تكاملا رفيعا بين أركان كانت بمثابة صرح له، وباب هذا الصرح هو التربية على القيم.