وفجأة وعلى سابق عهد قريب انتقل صك الاتهام للأمة ومكوناتها، ونسيجها الاجتماعي المستوعب لكلها، من الدلالة والعبارة إلى الرمز والإشارة، وليس هذا طبعا من كبير خوف أو مجاراة تقية، وإنما هو طفح وفيض من دُربة جسارة وكبير جراءة، فحالة العنف، والتطرف، والإرهاب، والغدر،وهدر النفوس بغير حق،واللصوصية، وخيانة العهد، وملابسة النزوات الجنسية في صيغتها البهيمية مثلا، كلها معطوفات من السهل أن تجتمع وتتسنى بكل يسر وسهولة لمنتج فيلم أو برنامج وثائقي أو برنامج كاميرا خفية، مبتسرة ومختصرة ومتجلية ومتمثلة في شخصية أنموذجية تلبس عباية بيضاء، وتضع كوفية،وعقالا أسودا على رأس قد حفته لحية عمد المخرج إلى إلصاقها بهذا الوجه المخضرم العُجمة إلصاقا…
ولا شك أنه إلباس يتعدى دائرة رمزيته وإشارته لذلك الجسد المستعار لهذه المهمة، ليصير خارج هذه الدائرة مستهدفا حضارة الأمة، ودينها وسيرة نبيها، ومنهج سيرها في مناكب الأرض على وفق أمر مربوبها ومألوهها جل جلاله وعظم سلطانه، رائما بهذا الاستهداف جعل هذه الحضارة مجرد حركة شذوذ ونشاز بشري متوحش عرفه الخط الحضاري للسيرورة التاريخية، بل مجرد تجمع لقطاع طرق، بله لقطعان بشرية لا ضمير لها ولا كبد رطب، توجهها أساطير الأولين، وتستغل لسانها العربي المبين لتملأ صفحات التاريخ الإنساني بالرعب والخوف، والقتل والغصب والنهب والفساد والإفساد في الأرض…
ولم نكن لنستغرب صك الاتهام هذا ولا حركة انتقاله من الدلالة إلى الرمز، ومن العبارة إلى الإشارة، فإن لنا سوالف عهد مع هذا النوع من التهمة، فإنها والله عين التهمة التي وقف ليرددها فرعون مصر متهما بها كليم الله موسى عليه الصلاة والسلام مصداقا لقوله تعالى:”وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أوأن يظهر في الأرض الفساد”، ولا ريب أن الفساد في رمزيته واستعارته لم يكن ولن يكون عنده، وعند شواكله من بعده وإلى أن تقوم الساعة إلا متجليا في العمل بطاعة الله والوقوف عند حدود ما أحل وحرم سبحانه وتعالى، فأين يا ترى ملمح الاستغراب بعد هذا الكيل المطفف؟؟؟
ولكن المستغرب أن تنتقل عدوى هذه التهمة، وتصادف هوى في نفوس أسفنجية مريضة، وتجد لها حواضن محلية، لا تزال تتكاثر تكاثر الفطر، وتتناسل تناسل الأنعام، يؤشر على هذا الاحتضان والإصابة لسان إعلامنا البئيس، وأفمام رؤوس الفساد والإفساد العلماني، ذلك الكيان المفتون والمنبهر والراكع المنيب في خشوع وإخبات، وكبير استجابة لكل وافد من وافدات الفكر الصقيعي الحائف، بل الملبس لهذا الوافد الاستغرابي القذر النجس ثوب الطهارة والترفع،والمسبل على بشاعة وجهه وواجهته قناع الحضارة والتحضر المدني الضارب في عمق الرحمة والإنسانية.
لقد صار بمنطوق ومنطق هذا الاحتضان المحلي وتلك المصادفة اعتساف الرجل الأبيض، وبغيه، وتكالبه، ولصوصيته، وغصبه، واغتصابه، وقتله، وهدمه،وولغه بفرط نهم،وكبير سغب في دماء الأجساد وشرف الأعراض، مظهرا من مظاهر التحرير، وسلوكا من سلوكيات رد الاعتبار للشعوب الواقعة في بؤرة الإرهاب الإسلامي الداعشي الوهابي الظلامي المتطرف المتوحش…
ولك أن تعلم أنه وفي ظل هذا المناخ الموبوء رفعت مدنية الرجل الأبيض من عقيرة القتل والانتهاك والمتابعة المؤشر عليها بصكوك الرضا والحاجة، بل صارت وتضمنت قائمة المحاسبة والمؤاخذة، حيزدواخل النفوس وخواطر ونوايا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، بل حوسبت الأحلام والمنامات وأحصيت الأنفاس، وأُخذت النواصي بالأقدام، حصل كل هذا وزيادة تحت مرمى بصر وسمع الذين أتعبنا طول حديثهم عن حقوق الإنسان بله الحشرات والحيوان-من البعوضة إلى الفيل- في مختلف محافلهم ومنتدياتهم وجمعياتهم ومؤسساتهم الدولية.
فقد عمّت الملاحقات والمتابعات العابرة للحدود والمنتهكة لخصوصيات الخرائط السيادية المحلية بشكل فاق كل التوقعات، إلى حد ضيّق الأرض بما رحبت على كل من سقط في شبهة أو محض اشتباه،أومشترك اسم وتطابق كنية، أو توهم لقب،انقلب معه الكثير من الأبرياء إلى ضحايا وقعوا تحت طائلةتكالب المقاربة الأمنية بل حتى القوة العسكرية التي ما فتئ طابور الرجل الأبيض ينفذ بها تعاليم شبيه عيسى في موروثهم المحرف القذر…
ومع ما حصل من قتل، وارتكب من نهب، وسرقة، وغصب واغتصاب، وانتهاك حقوق آدمية، ودك دُور وهدمها فوق رؤوس قاطنيها من الأبرياء الآمنين والضحايا والمستضعفين، ومع ما صار مأثورا على مدنية الغرب من استباحة للأرض والعرض، معهودا عليها من سيرة إقعاد تملأ القلوب كمدا وحزنا، وتزحم جنبات الأرض بالمآسي والمظالم، فإن بدلة التهمة الجاهزة تهمة الإرهاب ورمزية العنف والتطرف بقيت على ظهر الضحية متلبسا بتهمتها، ينوء بحملها ويتجشأ عناء اللازم والمقتضى من ذلك التلبس بمخيطها.
بينما بقي الجلاد يرفل في ثوب البراءة الأولى متدثرا في عباءة السلم والمسالمة، يشهد له بهذه البراءة معشر المتداعين من جنسه على قصعتنا، بشراكة وتواطئ منحاز من كتلة الوجه الرسمي لكثرتنا الغثائية، ذلك الوجه الصلد الصفقالذي آثر استصحاب ومرافقة الصائل المعربد، وفضل عن قناعة واستبشار السير في ركابه القاتل الغادر، بل والتصفيق والتسويق لمنظومته ومنهج اختياراته وهو يؤسس لقيادته الغاشمةللعالم المعاصر، باسم حماية الحقوق والدفاع عن مقومات الحياة على سطح كوكبنا بكل اهتمام وفرط حرص ورعاية، هذه الرعاية التي لا تجهل ولن تجهل مكامن الخطر الذي يتهدد أمنها القومي، ويفجر المؤامرات تلو المؤامرات التي يمتد حبلها ليستمسك بتراث السيف المسلول المشهر في وجه مستقبل حضارة ومدنية الرجل الأبيض المتحضر قديما وحديثا.
وكم تمنينا وطال انتظار هذا الأمل السرابي، أن نسمع لإعلامنا ركزا يصدع بوصف أو تخبير أونقل يحكي إرهاب الرجل الأبيض، ويصور في صدق وأمانة إرهاب أمريكا وروسيا وهما يخسفان الأرض من تحتنا، ولكنه وللأسف ظل إعلاما وفيا لخط تحويره وتحريفه، يحصي علينا كل صيحة وشذوذ مارسته طائفة منا قليلة، شذوذقاومته وأنكرته وعانت من ويلاته أكثريتنا، إعلام يحسب ويعد غزوات نبينا كما يحصي المفلس مأثور رأسماله، ثم يخلص إلى تأبيد مشروعية إدانتنا وأننا أمة نعشق الدم، كما تعشق الأمم الأخرى الحياةوالبقاء المغمور في مشاعر الود والرحمة والمهادنة، تلك الرحمةوالتي من تجلياتها طبعا أن لا نعيش بجنب أحلامها وأن لا يُسمع لنا صوت حيث تسود وتتكاتف أيدي بطشها، في مقابل ما يصيب الأمة ونسيجها الفسيفسائي من خصومة ومنابذة وفرقة، حسبناها ولت في غير رجعة ولا أسف، ولكنها حية مستضمرة يتجدد استهلال فتنتها، كلما لاح في الأفق أمل توحد واجتماع يؤرق أول ما يؤرق صانعي القطرية والمنافحين عن دعاوي الانفصال واستقلال الذمة السياسية…
وإننا وفي غمرة اعترافنا وإقرارنا وطأطأة هاماتنا لحصيلة ما وصل إليه الرجل الأبيض من كبير تفوق مادي هائل، لنقر ونعترف بالمقابل أننا نمتلك من المقومات الأخلاقية،وما لا ينفك عنها من أسباب الرقي ما نستطيع به سد الفجوة الكائنة بيننا وبينه في هذا الخصوص، وذلك كلهمشروط بتحقق المستوى الذي تهفو فيه الروح إلى موطن خلقها العلوي، بينما تتسفل الأجساد في إخلاد مارق إلى مادةصنعتها الترابية، وكلها ضوابط ومحركات أفكار ومؤشرات على يقينيات وحقائق تحكي بالصوت والصورة والرائحة حقيقة أن دور الرجل الأبيض في إدارة شؤون وسياسة أمور الناس قد أفضى إلى ما قدم، وأنه دور انتهى ولا أمل في عودته إلى واجهة الأحداث، فقد خسر عبر ما راكمه من سجل حافل بالجرائم ثقة المستضعفين والمشردين والثكالى والأرامل من الحرائر والمعطوبين من الضحايا هنا وهناك وهنالك…