لما ظهرت (الحركة النسوية) في القرن الثامن عشر؛ كانت تطالب في أول الأمر ببعض حقوق المرأة كالتعليم وحق العمل، ثم أصبحت تطالب بحق المرأة السياسي، وأخيراً أصبحت تنادي بالمساواة التامة مع الرجل في جميع مجالات الحياة، واعتبار العلاقة مع الرجل علاقة تنافس وتضاد، ونتيجة لذلك أصبحت هذه الحركات تنادي بالحرية التامة للمرأة، ومن ذلك دعوى ملكية المرأة لجسدها، وحقها في إقامة علاقات جنسية مع بنات جنسها.
بين المساواة والعلم
إلا أن الحركة اصطدمت بالحقائق العلمية التي تبطل نظرية (المساواة المطلقة)، وتؤكد ما قررته وأمرت به الشريعة الإلهية من (المساواة العادلة)، تلك الحقائق التي أبرزها كثير من علماء الغرب ومفكريه من الرجال والنساء، واستفاضت بها أبحاثهم ومؤلفاتهم، والتي يمكن أن نلخصها في قول (هيلين أندلين)؛ الخبيرة في شؤون الأسرة الأمريكية:
“إن فكرة المساواة -التماثل- بين الرجل والمرأة غير عملية أو منطقية، وقد ألحقت أضراراً جسيمة بالمرأة، والأسرة، والمجتمع”.
نظرية “الجندر”
هذه الحقيقة وما تستلزمه لم ترق أرباب دعوة المساواة، ومعلوم من سلوكهم ومواقفهم؛ أن المقررات الشرعية والحقائق العلمية لا تقف أمام أهوائهم ورغباتهم، ولذلك حاولوا معارضتها بمثل ما عارض به (شارلز داروين) حقيقة الخَلْق ودلالته على الخالق؛ وفي هذا السياق وضعوا نظرية مفادها: أن الفروق بين الجنسين خاضعة لمنطق التطور وليست من أصل الخلقة، وبنوا على ذلك أن لكل إنسان الحق في اختيار جنسه أو رفضه!
وقد أطلقوا على هذه النظرية اسم: (الجندر Gender).
وإذا كان علماء الغرب الذين أشربوا الإلحاد في قلوبهم يجتهدون في إثبات نظرية (داروين) وجعلها حقيقة علمية مع أن العلم قد أبطلها وهدمها؛ فإن أصحاب نظرية (الجندر)، لا يفتئون يجتهدون في جعل نظريتهم حقيقة اجتماعية، مع أنها مناقضة للفطرة التي لا ينبغي تبديلها!
ولتحقيق هذا الهدف؛ ظهر استخدام مصطلح (الجندر) في مؤتمر السكان بالقاهرة عام 1994م.
وفي مؤتمر “بكين” للسكان الذي عقد عام 1995م تم التركيز بشكل مكثف على استخدامه؛ باعتباره أساس الدعوة إلى إلغاء كافة الفوارق التي من شأنها أن تنتقص من حقوق المرأة، أو التي تعطي الرجل حقوقا أكثر من المرأة، وركز المؤتمر على أن طرح فكرة المساواة بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالحصول على الحقوق وممارسته الأدوار الوظيفية داخل المجتمع؛ إنما يتبلور من خلال استخدام مصطلح (الجندر )”!
ولست في حاجة لبيان أن الحركة النسوية في البلاد الإسلامية تتبنى النظرية، وتدعو إليها!!
لقد شكلت هذه السوءة الفكرية؛ –ولا تزال- أساسا (إيديولوجيا) لكثير من الأفكار والممارسات الخطيرة المناقضة للفطرة والطبيعة الإنسانية، والمدمرة للأخلاق والفضيلة، والتي انتشرت في المجتمعات انتشار النار في الهشيم…
الرجلة و”الجندر”
ولما وقفت على هذه النظرية وما يراد منها؛ خطر ببالي حديث نبوي لفظه: “لعن الله الرجلة من النساء”.
وشككت في صحة هذا الحديث لعدم علمي –وقتئذ- بصحة مثل هذا التعبير: (الرجلة) في العربية.
لكن الشك تبدد حين وقفت على تصحيح علماء الحديث له؛ ومنهم الحافظ شمس الدين الذهبي رحمه الله.
وهذا الثبوت قادني إلى التأمل في هذا اللفظ وفي سر التعبير به دون غيره من الألفاظ التي تؤدي المعنى ذاته، والحالة أن المعبر به هو أفصح من نطق بالضاد؛ صلى الله عليه وسلم. فخطر ببالي أن النكتة البلاغية تكمن في الإيجاز والاختصار، فهذا اللفظ أوجز من لفظ: “مترجلة” أو “متشبهة بالرجال”، أو نحوهما من الألفاظ ..
تعبير بليغ عن واقع أوغل في الغلو
إلا أنني وجدت نفسي مشدودة إلى معنى آخر تبلور في ذهني، فعبرت عنه بما يلي:
إن درجة الانحراف التي وصل إليها بعض البشر في هذا الباب؛ وعلى رأسهم: (الحركة النسوية) المتطرفة، ومن وراءَها ومن يسبح في فلكها؛ وصلت إلى حد لا يناسبه إلا مثل هذا التعبير.
وممارساتهم وما يؤطرها من الفلسفات والنظريات لا يكفي أن توصف بأنها تشبه من النساء بالرجال أو تمني النساء ما اختص به الرجال أو حسد المرأة للرجل؛ بل إنها تحتاج إلى وصف أدل على الواقع، وليس أدل عليه في نظري؛ من وصف: الرجلة، الذي يوحي بأن هذا النوع من النساء رفض أنوثته إلى درجة أن تبرم من اسم الأنوثة، وغلا في الرغبة في تقليد الرجل إلى حد اقتضى وصفه باسم الرجل، مع تاء مربوطة تدل على الأصل الذي طرأ عليه الانحراف!
الحكم الشرعي
وقبل أن أسلط الضوء على الوعيد الذي جاء به الشارع الحكيم في حق أمثال هؤلاء؛ أبرز موقف الشريعة الغراء من مجرد تمني أحد الجنسين ما اختص به الآخر:
قال الله تعالى: “وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا” (النساء 32).
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله: “وذُكر أن ذلك نزل في نساءٍ تمنين منازلَ الرجال، وأن يكون لهن ما لهم، فنهى الله عباده عن الأماني الباطلة، وأمرهم أن يسألوه من فضله، إذ كانت الأمانيّ تورِث أهلها الحسد والبغي بغير الحق.
قال محمود شاكر رحمه الله: ” وَفرْقٌ بين أن تحيا أمة رجالًا ونساءً حياة صحيحة سليمة من الآفات والعاهات والجهالات، وبين أن تُسقِطَ الأمةُ كل كلَّ حاجز بين الرجال والنساء، ويصبح الأمر كله أمر أمانٍ باطلة، تورث أهلها الحسد والبغي بغير الحق”.
وكما نهى الشارع الحكيم عن تمني النساء ما اختص به الرجال والعكس، فقد نهي عن سعي أحد الجنسين في التشبه بالآخر، ولو على مستوى اللباس:
عن أبي هريرة قال: لعن رسول الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل.[رواه أحمد وصححه الألباني].
واللعن هو الطرد من رحمة الله، وهذا يدلك على مبلغ الضلال الذي وصل إليه أولئك الذين تُوُعدوا بمثل هذا الوعيد ..
من حكمة الحكم
وإذا أردنا أن نقف على وجوه من الحكمة التي اشتمل عليها ذلكم الحكم الشرعي (تحريم التمني والتشبه)؛ فإننا لا نحتاج إلى كبير عناء لمعرفة أن القافلة الإنسانية لن تسير سيرا صحيحا إلا إذا تميز الرجل عن المرأة وتميزت المرأة عن الرجل؛ فهذا التميز ضروري للتكامل الوظيفي بين الجنسين..
ولو لم يكن ذلكم التمايز حاجة ضرورية للمجتمع الإنساني لما كانت ثمة حاجة إلى خلق نوعين من جنس واحد؛ ولقد قرب أحد العلماء هذا المعنى بقوله: “وإذا نظرنا إلى جنس انقسم إلى نوعين فيجب أن نقول إنه لم ينقسم إلى نوعين إلا لأداء مهمتين، وإلا لو كانت المهمة واحدة لظل الجنس واحدا، ولم ينقسم إلى نوعين؛ فالليل والنهار نوعان لجنس واحد هو: الزمن، وهذا التنوع أدى إلى أن يكون لليل مهمة هي السكن، وأن يكون للنهار مهمة؛ هي السعي والكدح، والرجل والمرأة بهذا الشكل نوعان لجنس هو الإنسان، فكأن هناك أشياء تطلب من كل منهما كإنسان، وبعد ذلك أشياء تطلب من الرجل كرجل، ومن المرأة كامرأة”.
الجندر أو الوحي الشيطاني
وأختم هذه المقالة ببيان حقيقة مهمة؛ وهي أن أصل فلسفتهم لا يقف عند حد كونه ضلالا فكريا؛ بل إنه مبدأ شيطاني؛ كما يبين ذلك قوله تعالى عن إبليس:
{لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (النساء 119).
قال الطاهر بن عاشور رحمه الله: “ويدخل في معنى تغيير خلق الله؛ وضع المخلوقات في غير ما خلقها الله له، وذلك من الضلالات الخرافية”.
ويبدو أن كون هذه الآية من آي سورة النساء؛ فيه إشارة شبيهة بتلك التي في حديث الرجلة.