قراءة في كتاب “سؤال الهوية وقضايا التراث والمنهج والدولة” للدكتور عبد الرحيم خطوف ذ. حسين باروش

الكتاب الذي بين أيدينا من تأليف الدكتور عبدالرحيم خطوف باحث مغربي في الفكر الإسلامي والدراسات المستقبلية، صدر الكتاب عن دار الكلمة للنشر والتوزيع بمصر، سنة 2018. وهو من الحجم الكبير، ويضم 288 صفحة.
سؤال الهوية طُرح في الكتاب من جهة باعتباره محاولة فهم الذات وعلاقتها بالآخر، ومن جهة أخرى طرح نتيجة تنامي الوعي بمخلفات الاستعمار والإرث الذي تركه ماثلا أمام الأمة التي استيقظت فوجدت نفسها قد سُلبت هويتها الثقافية والحضارية، وكُبلت بأغلال سياسية وثقافية وفكرية، مما جعلها تحتاج لمقاومة فكرية طويلة الأمد لفكها وإزاحتها من طريقها، لهذه الأهمية القصوى للهوية في فكرنا المعاصر، اعتبر المؤلف أن الهوية أصبحت قضية مركزية تدور حولها جل القضايا الفكرية المعاصرة.
اعتمد المؤلف المنهج الحجاجي المقارن، حيث انطلق من دعوى حاول إثباتها في كل الفصول الخمسة للكتاب، وتتلخص هذه الدعوى في:
أولا- اعتبار سؤال الهوية إشكالية رئيسة ومركزية في الفكر المعاصر، ويمكن التعبير عنها بإشكالية الإحياء والانسلاخ عن الذات، فسؤال الهوية الذي يحضر في جميع القضايا المطروحة للنقاش والرأي، يتم الجواب عنه بأجوبة مختلفة تتقابل فيما بينها، منه جواب إحياء الذات عن طريق تجديدها لتصبح فاعلة في واقعها، ويقابله جواب الانسلاخ عن الذات، وتجاوز حقيقتها لاعتبارات كونية، ومستجدات عالمية تقتضي ذلك.
ثانيا- إذا كان سؤال الهوية يمثل قضية مركزية في الفكر المعاصر بالنسبة لباقي القضايا، فإن الجدل الفكري إذا انطلق من الهوية، فإنه سيصل إلى مكوناتها الأساسية أو الفرعية الثقافية والسياسية والاجتماعية، وإذا انطلق من مكوناتها الفرعية فإنه سيعود إليها حتما، كما ينزع الفرع إلى أصله، وبما أن المؤلف اعتبر أن هذه الدعوى تثبت أن الهوية قضية أساسية تدور حولها القضايا الفرعية، فقد ربط الأصل بالقضايا الفرعية منها قضية التراث، وقضية المنهج، وقضية الدولة باعتبارها تجليات تاريخية وثقافية وسياسية.
ثالثا- إذا كانت الهوية لا تتجسد ولا تتحقق إلا من خلال تجليات ثقافية ومنهجية وسياسية، هي بمثابة تعبير واقعي للهوية عن نفسها، فإن الهوية والذات الجماعية لها تعبيرات مختلفة في الواقع التاريخي الذي عاشت فيه، فهناك التعبير الثقافي للهوية، ويتجلى في التراث الذي أنتجته الذات عبر تاريخها الثقافي والفكري، لذا كان لابد للهوية أن تنزع لثقافتها وتراثها، كي تثبت امتدادها الثقافي والتاريخي، وهناك التعبير المنهجي للهوية، ويتجلى في المنهج الذي اختارته الذات الجماعية في علاقتها مع الطبيعة والحياة، كما يتجلى في أسلوب تفسيرها للوحي الإلهي، وتحليلها للفكر البشري، لذا كان لابد للهوية أن يكون لها منهجا خاصا في الحياة وفي الكون كله بما فيه الفكر والتاريخ، وهناك التعبير السياسي للهوية، ويتجلى في الدولة أو السلطة السياسية التي اختارتها الذات عبر تاريخها وثقافتها، لتكون حامية لهويتها وذاتها من الضياع أو الاعتداء، لذا كان لابد للهوية والذات الجماعية من قوة سياسية تمثلها وتدافع عنها، وتدفع عنها التهديدات والاعتداءات الخارجية التي يمكن أن تمحو آثارها، وتعرضها للضياع والزوال.
لهذه الاعتبارات السابقة اختار المؤلف أن يكون سؤال الهوية هو المحور والمركز لكل القضايا الأخرى، حيث تتداخل فيها قضية الهوية مع قضايا التراث، والمنهج، والدولة في علاقة جدلية مترابطة وهي التي تمثل أهم مواضيع الكتاب، حيث توجد المواقف المختلفة التي لا تنفك عن الرجوع إلى مركز الهوية وتداعياتها.
وعن خطة الكتاب فقد ضمت مدخلا وخمسة فصول كالتالي:
مدخل: عن مفهوم الهوية، وسياق إشكاليتها.
فصل تمهيدي: سؤال الهوية في الفكر المعاصر، أسبابه وأثره.
الفصل الأول: صراع الهويات.
الفصل الثاني: الهوية وقضية التراث.
الفصل الثالث: الهوية وقضية المنهج.
الفصل الرابع: الهوية وقضية الدولة.
في الفصل التمهيدي، تناول المؤلف الكلام عن سياق سؤال الهوية في الفكر الحديث، وبعد تحليل ودراسة لمضامينه ظهر للمؤلف أن لقاء الغرب الأوروبي بالشرق الإسلامي في ظل استعمار الأول للثاني واحتلال بلاده، أفضى إلى ظهور أسئلة جديدة، منها سؤال التحديث أو مطلب المعاصرة، وسؤال التطوير أو مطلب المراجعة، ومن هذه الأسئلة وغيرها، خرجت إلى الوجود مشاريع مختلفة في الفكر الإسلامي العربي الحديث، تراوحت بين مشاريع إصلاحية، تطلب تحديثا للواقع المحلي، وذلك بالتوفيق بين العناصر الداخلية المحلية، والعناصر الخارجية الغربية، انطلاقا من المعايير التراثية وأصوله الإسلامية، وبين مشاريع تطويرية، أكثر جذرية في مطالبها من سابقتها، سواء على المستوى الاجتماعي أو المستوى السياسي، أو المستوى المنهجي، انطلاقا من معايير مستوردة من الغرب، فجاءت هذه المشاريع مختلفة تماما عن سابقتها، كل هذه المشاريع تبلورت إلى رؤى ونظرات واختيارات مختلفة في الفكر المعاصر، وصلت إلى حد التناقض والتعصب والاتهام المتبادل؛ هذا ما يدل على التأثير الذي تركه الاستعمار الغربي في الصراع الشديد عن الهوية الذاتية في الفكر المعاصر، إن لم نقل ما يزال يرعاه إلى يومنا هذا.
اتفقت كل الرؤى المحلية في الفكر المعاصر على أهمية البحث في سؤال الهوية، واعتبارها محور القضايا الداخلية، والإشكال الرئيسي في الفكر المعاصر، ومن خلالها يمتد تباين المواقف إلى باقي القضايا المرتبطة بها، منها قضية التراث، وقضية المنهج، وقضية الدولة.
وفي الفصل الأول: تناول مكونات الفكر المعاصر انطلاقا من جوابها عن سؤال الهوية.
الأولى الرؤية التقديسية لثوابت الهوية، وتضم رؤيتين قريبتين، الرؤية الإسلامية والرؤية القومية العربية، أو والثانية الرؤية التوفيقية، وهي الرؤية التي أرادت أن توفق بين الهوية الإسلامية والهوية العربية، محاولة ردم الهوة بين الهويتين المتقاربتين تاريخيا؛ والثالثة الرؤية التركيبية التي جمعت في هويتها مجموع عناصر داخلية وخارجية، العنصر الإسلامي والعنصر العربي، والعنصر الخارجي الغربي، يجمعهم وطن على أرض محددة، مكونة من خلالها هوية وطنية، وقد ظهر أن هذه الهوية تعيش أزمة الذات والتميز، لاحتوائها عناصر متميزة أصلا مثل العنصر الإسلامي، أو العنصر العربي؛ والرابعة الهوية الإلغائية وهي الرؤية المختلفة تماما عن كل الرؤى التي سبقتها، فإن كانت الرؤى السابقة ترى أهمية الهوية، فإن هذه الرؤية ترى عكس ذلك، فالهوية هي سبب انسداد آفاق الفكر العربي الإسلامي المعاصر، وهي تعبير عن هوية عمياء، تنتج اختلافا وحشيا في ظل الصراع حولها، أما كونها تثبت الذات، وتحافظ على أصالتها، فهذا من قبيل الوهم، الذي يجب إلغاؤه، ومن تم إلغاء ثبات الهوية من قاموس الفكر المعاصر.
وفي الفصل الثاني: تناول الكتاب الهوية وقضية التراث في الفكر المعاصر، حيث تعددت النظرات التراثية المختلفة في الفكر المعاصر، وجاءت انطلاقا من رؤيتها السابقة للهوية، لمدى ارتباط كل نظرة تراثية برؤيتها للهوية الذاتية، سواء من خلال دفاعها عنها، أو من خلال نقدها للهوية المختلفة عن هويتها، وقد انقسمت هذه النظرات إلى ثلاث:
الأولى: النظرة التجديدية للتراث أو الاعتبار بالتراث، وهي النظرة المرتبطة برؤيتها التقديسية التجديدية للهوية، وتنطلق من فصل التراث عن أصوله المتمثلة في الوحي، فهو تراث إسلامي، نتج عن احتكاك عقل المسلم بالقرآن والسنة النبوية، لهذا فهي لا ترفضه أو تتجاوزه، إنما تقرأه قراءة تجديدية.
الثانية: النظرة الانتقائية للتراث أو تأويل التراث، وهي قراءة انتقائية لعناصر التراث، تختلف عن القراءة التجديدية، حيث تنطلق من وضع علاقة وثيقة بين التراث والواقع المادي، كما تجعل الدين عنصرا من عناصر التراث، لا أصلا من أصوله، وقد تجلت هذه الانتقائية ضمن الفكر المعاصر في ثلاث قراءات قراءة انتقائية مذهبية، وقراءة انتقائية ثورية، وقراءة انتقائية وطنية.
الثالثة: النظرة التجاوزية للتراث أو تملك التراث، وهي النظرة المرتبطة برؤيتها الإلغائية للهوية، فهي لا تعترف بوجود تراث تاريخي، إنما التراث ما يوجد في لا وعي المجتمع، فالتراث هو قراءتنا له، وتوظيفنا لعناصره في حاضرنا، وهي إذ تضع مشروع التجاوز، فإنها تتوجه بالنقد للنظرة التجديدية للتراث.
وفي الفصل الثالث خصص المؤلف الكلام عن الهوية وقضية المناهج في الفكر المعاصر، فالمنهج من المفاهيم الجديدة التي اشتغل بها الفكر المعاصر، والمنهج منظومة متكاملة، تبدأ بالوعي والرؤيا المشكلين لروحه، وبناء على هذه المنطلقات لمنظومة المنهج، تم تقسيم المناهج إلى ثلاثة:
الأول: المنهج الغائي، الذي ينطلق من رؤيته الإسلامية للهوية، ومن التصور الإسلامي للكون، باعتبار أن هذا الوجود له غاية، فهو منهج تربوي مقاصدي، تربوي لأنه ينطلق من تربية الإنسان، ومقاصدي لأنه يؤسس لمبدأ الاستخلاف في هذا الكون.
الثاني: المنهج الوسطي ينطلق من رؤيته التوفيقية للهوية، وهو يضع نفسه بين طرفين سلبيين، أو موقفين خارج دائرة الإسلام،
الثالث: المناهج المستوردة من الغرب، وهي امتداد طبيعي للرؤية الإلغائية للهوية وللنظرة التجاوزية للتراث، فهي مناهج خارج دائرة الهوية والتراث من أجل فهم الذات، وقراءة التراث، ومن هذه المناهج المستوردة: منهج العقلانية الحداثي، والثاني المنهج المادي التاريخي، والثالث المنهج التقويضي أو التفكيكي، وقد عرف بمنهج ما بعد الحداثي، لأنه اعتمد تفكيك البنيات المغلقة، وتقويض نسق الذات، سواء لمقومات الهوية، أو لمكونات التراث، من خلال تفكيك بنيات النصوص المغلقة، وهو ما يؤدي إلى نسف كل اليقينيات، والثوابت الدينية والعقلية.
أما الفصل الرابع والأخير، الهوية وقضية الدولة، استعرض أربعة اختيارات، الاختيار الأول الدولة الإسلامية التي ارتبطت برؤيتها للهوية الإسلامية، ودفاعها عن هوية أمة الإسلام، الاختيار الثاني الدولة القومية العربية، هذه الدولة التي ارتبطت برؤيتها للهوية المحلية، ودفاعها عن الهوية القومية العربية، واختارت الدولة القومية العربية باعتبارها الامتداد السياسي للهوية القومية، لتكون منسجمة مع رؤيتها الأولى للهوية، الاختبار الثالث الدولة الوطنية التي نشأت عن طريق حكومة الاستقلال، هذه الدولة التي ارتبطت برؤيتها للهوية المحلية، وهي الهوية المركبة من عدة عناصر محلية وأجنبية، فعملت على دمجها وتركيبها في الدولة الجديدة، لتدافع عن هويتها الشاملة التي ترتكز على الأرض والوطن، الاختيار الرابع الدولة العلمانية، هذه الدولة التي ارتبطت كذلك برؤيتها الإلغائية للهوية المحلية، ودفاعها عن رؤيتها ومشروعها الإلغائي، فاختارت الدولة العلمانية التي تفصل أهم مقدسات الأمة عن السلطة السياسية، فتبنت نقل التجربة الغربية العلمانية إلى الواقع السياسي المحلي، لاعتقادها باستيراد النجاح الذي تحقق في البلاد الغربية إلى البلاد المتخلفة، عسى أن يكون هذا النظام بديلا صحيحا للنظم السياسية المحلية.
ومن هذه الخلاصات التي استقيناها من فصول كتاب سؤال الهوية وقضايا التراث والمنهج والدولة، فإننا نعتبر أن الكتاب صيحة فكرية معاصرة للعودة إلى سؤال الهوية باعتباره سؤالا مطروحا على الفكر الإسلامي والعربي المعاصر بإلحاح، لما له من ارتباط بالامتداد الثقافي المتمثل في التراث، والامتداد المنهجي المتمثل في المناهج، والامتداد السياسي المتمثل في الدولة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *