“الغزو اللغوي الصليبي الفرنسي للمغرب”، هل تتخيل أن هذا عنوان مقال، لم تنشره جريدة السبيل أو التجديد أو المحجة أو العصر أو الجسر…، ولا مجلة المجتمع أو المسلمون أو البيان…
إنه مقال نشرته جريدة العلم، لسان حزب الاستقلال، مطلع سنة 1986، في عددها 12.982، ووقعه الدكتور إدريس الكتاني.
ما يهمني هنا أمران:
أن اللغة العربية كانت قضية أحزاب وطنية كبيرة، من حجم ووزن حزب الاستقلال، بمناضليه ونخبته ومثقفيه…
أن حرب اللغة، حرب قديمة، لا تعود فقط لسنة نشر المقال، بل قبل ذلك بكثير، لكنني اخترت هذا المقال لأن لي وقفات مع صاحبه، في هذا الصراع.
مقال إدريس الكتاني، أثار حينها جدلا واسعا، وتأييدا كبيرا، فعمد إلى طبعه مستقلا في رسالة، بعنوان: “التلفزة المغربية والغزو اللغوي الصليبي الفرنسي للمغرب”، ثم طعمه وذيله بإضافات مهمة جدا، من صحف وطنية أخرى، كانت تخوض نفس المعركة، مقتبسا منها مقالات أو أخبارا أو مقاطع.
فاقتبس من جريدة الرسالة، في عددها 115، في نفس السنة: “ما طرأ على التلفزيون يطعن جماهير شعبنا في الصميم”.
ومن جريدة البلاغ في عدديها 127 و130، “من أجل فرض المشروعية الأجنبية وترسيخ لغة الاستعمار” و”إدارة الظل تصر على أن التلفزة فرنسية” و”الغزو الحضاري للمغرب من الفكر واللغة إلى المطبخ”.
ومن جريدة الأيام الفنية في أول أعدادها، من نفس السنة، “الرأي العام المغربي ضد فرنسة التلفزة”.
وخطاب لمحمد بوستة نشرته جريدة العلم في نفس السنة بعنوان: “نرفض كل ازدواجية لغوية وأي إدماج لأمتنا في الحضارة الفرنكفونية”.
ومقال لعبد الكريم غلاب نشرته العلم في نفس السنة، بعنوان: “الازدواجية تنتهي بتفرد اللغة الاستعمارية وانفصام الشخصية المغربية” و”احترموا مشاعر شعبنا الدينية والوطنية”.
ونشرت العلم أيضا: “الانفتاح على اللغات ليس مبررا للازدواجية” و”الجامعة العربية والجامعة الفرانكوفونية”.
ونشرت الرسالة: “لا يمكن الفصل بين محاربة الإسلام ومعاداة اللغة العربية”.
بالإضافة لهذه الاقتباسات والإضافات، فقد تطرق الدكتور الكتاني في مقاله، لتحديات وإشكاليات، يبدو أن الزمن لم يزدها إلا تكريسا، ما يعني أن الحرب كانت ولاتزال قائمة، وأن المتصدين لها، يشتغلون بنفس الأدوات في كل حقبة ومرحلة، الاكتفاء بالاستنكار والتنديد، ثم يستمر أصحاب المخططات في مخططاتهم، مسنودين بلوبيات السياسة والاقتصاد والإعلام…
قلت أن حرب اللغة، حرب قديمة، لا تعود فقط لسنة نشر المقال السابق، بل قبل ذلك بكثير، قبله بربع قرن، لقد كتب إدريس الكتاني مقالا آخر بعنوان: “ازدواجية لغة التعليم الأساسي أكبر خطر واجهه الشعب المغربي منذ الظهير البربري” كتبه سنة 1962، ونشره في جريدة الميثاق.
وقد حفل هذا المقال المكتوب قبل حوالي ستة عقود، بمصطلحات ومفاهيم وألفاظ وأفكار، لاتزال محل نزاع وصراع، منذ ذلك الوقت، كتعريب التعليم، وازدواجية لغة التعليم، بل تحدث عن احتكار تلقين المواد العلمية باللغة الفرنسية، واستعرض نتائج ازدواجية التعليم، منذ الاستقلال، إلى سنة 1962، محذرا من أن الأمر سيتفاقم إذا استمر الوضع على ما هو عليه، متسائلا هل علينا الانتظار عشر سنوات أخرى لنكتشف النتائج البالغة الخطورة، ولم يكن يتخيل أننا سننتظر 60 سنة أخرى ولانزال.
سنة 1962، كتب الدكتور الكتاني مقالا بعنوان: “تضليلات لتبرير فرنسة التعليم”، ساردا ثلاث تضليلات.
في سنة 1964، ألقى الدكتور الكتاني، كلمة بعنوان: “قضية التعريب قضية الحرية والكرامة والاستقلال”، بمناسبة المؤتمر الثاني لرابطة علماء المغرب، ثم نشرت فيما بعا في جريدة الميثاق.
سنة 1970، وقعت 500 شخصية مغربية، بيانا تاريخيا، حذرت فيه من أخطار السياسة الاستعمارية في مجال التعليم، ومن فرنسة الأجيال المغربية الناشئة، ومن ترسيخ فرنسة الإدارة والمصالح العمومية.
سنة 1987، ألقى إدريس الكتاني، كلمة خلال الملتقى الأول لندوة علال الفاسي، بعنوان: “ازدواجية لغة التعليم الأساسي أخطر عمليات الاختراق الاستعماري لمقومات الشعب المغربي”.
استمر الدكتور الكتاني والمهدي المنجرة وعبد الكريم غلاب والجرائد والتجمعات والجمعيات والتنظيمات والعلماء والمفكرين والسياسيين والشخصيات المؤثرة، في معارك الاستقلال والسيادة، لكن الحرب كانت مستعرة، ومما كتبه الكتاني بحرقة ومرارة في كتاب “ازدواجية لغة التعليم الأساسي”، ضمن الملف الرابع من سلسلة ملفات ووثائق، كان أهداني إياها، متحدثا عن الهزيمة في معركة التعريب قائلا:
“انهزمنا فيها جميعا، بعلمائنا، وأحزابنا، ومثقفينا، وطلبتنا”.
وهاهو التاريخ يعيد نفسه.