“..تركناها عبرة لمن خاف عذاب الآخرة وخشي الرحمن بالغيب، وخاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فانزجر عن محارم الله، وترك معاصيه، وخاف أن يشابه قوم لوط، ومن تشبه بقوم فهو منهم” (ابن كثير).
بعث الله تعالى نبيه لوط عليه الصلاة والسلام في فترة بعثة عمه نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام، قال تعالى: “فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” العنكبوت، فاستقر به المقام في الخليل مع عمه، ثم نزح لوط إلى مدينة سدوم في نطاق غور الأردن اليوم، وكانت هذه القرية تقوم بأعمال قبيحة وعادات منكرة تتنافى مع الفطرة السليمة.
وقد ارتكبوا جريمة الشذوذ الجنسي وهي إتيان الذكور من دون النساء، قال تعالى: “وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ، وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ” (الأعراف).
لقد استهل لوط عليه السلام دعوته في قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأمرهم بترك الفواحش والمنكرات فلما ألح عليهم مغبة استمرارهم في هذا الطريق المعوج كان جوابهم كما أخبر تعالى: “..لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ” الشعراء، كما قرروا طرده بعد أن استشاطوا غضباً من دعوته، قال تعالى: “فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ” النمل.
لقد ساء قوم لوط طهرُ لوط عليه السلام ومن آمن معه، وإنكاره عليهم إتيانهم المنكرات والفواحش، والرجال شهوة من دون النساء، فما كان جوابهم عليه وعلى دعوته ونصيحته لهم إلا بالطرد والإخراج من قريتهم ومجتمعاتهم، متعللين بأنه ومن معه من المؤمنين يتطهرون ولا يقترفون الفواحش والمنكرات، وهذا يُسبب لهم الأذى والحرج الشديدين.
وحينما أراد الله سبحانه اجتثاث أصحاب الطباع السيئة والعادات القبيحة من على هذه الأرض.. أرسل إليهم الملائكة ليقلبوا ديارهم رأساً على عقب، فمروا في طريقهم على إبراهيم الخليل فبشروه بغلام حليم، وأخبروه أنهم ذاهبون إلى قوم لوط، أهل سدوم وعمورة، وأن الله قد أمرهم بذلك لإهلاك جميع أهل القرى الذين كانوا يعملون الخبائث.
فتخوف إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام على ابن أخيه لوط إذا قلبت بهم الأرض أن يكون ضمن الهالكين فأخذ يناقشهم ويجادلهم وقال لهم: إن فيهم لوطاً، فأخبروه بأن الله سينجيه وأهله ومن معه من المؤمنين من العذاب الذي سيحل على قوم لوط العصاة، قال تعالى: “وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ، قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ، وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ، إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” العنكبوت.
إن البقعة التي أصابها العذاب الأليم هي البقعة التي تعرف اليوم بالبحر الميت أو بحيرة لوط عليه السلام، ويرى بعض العلماء أن البحر الميت لم يكن موجوداً قبل هذا الحادث، وإنما حدث من الزلزال الذي جعل عالي البلاد سافلها وصارت أخفض من سطح البحر بنحو 392م، وقد اكتشف الأثريون شيئاً من هذه المدن المنكوبة على حافة البحر الميت.
قال تعالى: “َإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ” الصافات.
قال ابن كثير رحمه الله في التفسير: “..إن الله بعث لوطاً عليه السلام إلى قومه فكذبوه فنجاه الله تعالى من بين أظهرهم هو وأهله إلا امرأته فإنها هلكت مع من هلك من قومها، فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح، وجعلها بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلاً ونهاراً، ولهذا قال تعالى: “وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ”، أي أفلا تعتبرون بهم كيف دمر الله عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها.
والملاحظ أن الله عز وجل كلما ذكر قصة لوط عليه السلام، ختمها إما بالوعيد، أو بالدعوة إلى أخذ العبرة من القصة والتدبر فيها إمعاناً منه جل وعلا في التنفير من هذه الفاحشة ومن اقترافها على أي وجه من الوجوه، قال تعالى: “وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً، فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ” النمل، وقال تعالى: “ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ، أَفَلا تَعْقِلُونَ” الصافات، وقال تعالى: “وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ، فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ” القمر.
قال القرطبي رحمه الله في قوله تعالى: “وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ”: “يعني قوم لوط، أي لم تكن تخطئهم، وقال مجاهد: يرهب قريشاً؛ المعنى: ما الحجارة من ظالمي قومك يا محمد ببعيد، وقال قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة”. (تفسير القرطبي).
وذهب ابن كثير إلى سحب هذه الآية الكريمة “وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” على الأمة الإسلامية كلها إلى يوم القيامة، فقال: “أي تركناها عبرة لمن خاف عذاب الآخرة وخشي الرحمن بالغيب، وخاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فانزجر عن محارم الله، وترك معاصيه، وخاف أن يشابه قوم لوط، ومن تشبه بقوم فهو منهم” (قصص الأنبياء لابن كثير).
وبالجملة، فإن قصة لوط عليه الصلاة والسلام وما انتهت إليه من عذاب شديد في هذه الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشد، عبرة ودرسا للعالمين بعامة وللأمة الإسلامية بخاصة، ولشبابها على وجه أخص، حتى يسلكوا في تصريف شهوتهم الجنسية المسلك الشرعي الطبيعي الذي فطر الله عز وجل الناس عليه.