الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه، وبعد:
فلا يخفى على أهل العلم أهمية التراسل بين الأساتذة والفقهاء والعلماء ومراسلتهم، لما تكتنزه هذه الرسائل من فوائد ودرر مهمة، ففي المراسلات علم كثير يحرص عليه طالب العلم، وقد كان بين أهل العلم كثير من ذلك حتى عده الباحثون صنفا من أصناف العلم سموه بـ”علم المراسلات” وقد راسلت فضيلة الدكتور امحمد العمراوي حفظه الله في مسألة فقهية ظهر لي فيها أنه جانب الصواب فراسلته بارك الله فيه فكان جوابه يفيض أدبا وتواضعا قال فيه: “فالصواب ما ذكرتم والحق ما أوردتم شكر الله سعيكم وتقبل عملكم”، فظهر لي أن أنشر رسالتي له بيانا وتوضيحا لمن طالع كتاب الشيخ حتى يصحح ما ورد فيه من تعليق.
والله أسأل أن يحفظ دكتورنا الفاضل وأن يبارك فيه ويزيده علما على علم.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
إلى فضيلة الدكتور العلامة:
امحمد العمراوي حفظه الله وبارك فيه
سلام تام مشفوع بخالص الدعاء لمولانا الإمام
وبعد؛ فإنه ليشرفني ويسعدني فضيلة الدكتور المحترم أن أَخُطَّ بقلمي هذا مراسلا إياكم، ومادّاً وِصال الود والمحبة لكم، فإنَّ مراسلةَ أهل العلم شرفٌ وفضلٌ ما بعده فضلٌ وشرف.
أستاذي الكريم: إن القارئ وهو يُجيل نظره في كتب فضيلة العلامة الفقيه سيدي محمد التاويل؛ ليقف على مرتبة الشيخ العلمية والفكرية ورسوخه في الفقهية والأصولية، فلا تكاد تَمُرُّ بصفحة إلا وتقيّد فيها الفوائد والنوادر، أو تقف على شرح عجيب واستنباط بديع، ودرجة الشيخ التاويل بارزة في الفقه ورائدة في الأصول، ولا يحتاج مثله لمثلي للشهادة له بالشفوف فيه والريادة، وما يزيد مؤلفات الشيخ فائدةً وإبداعا؛ تعليقاتكم البديعة وتنبيهاتكم الرصينة، والفضل بعد الله يرجع إليكم في خروج عدد من الكتابات التي تركها الشيخ مسودة وهو يغادر دنيانا الفانية، وأنتم والله أحق بها وأهلها، فقد تتلمذتم على يديه ولازمتموه حتى الرمق الأخير، وإنا لنغبطكم على ذلك أشد الغبطة.
شيخي الجليل: إن تعليقاتكم البديعة على كلام شيخكم التاويل تزيد البهاء ضياء والعلم شفوفا وبهاء، وقد صادف أنْ وقفت على تعليقٍ من تعليقاتكم على شيخكم الكريم نفعنا الله بعلمه، وإن كان تعليقا ليس كباقي التعليقات؛ لكونكم نبهتم فيه على خطأٍ وخلطٍ ولبسٍ وقع للشيخ رحمه الله، وهو تعليق وإن كان يشهد لفضيلتكم بالتجرد العلمي والمنافحة عن الدليل والأخذ به؛ إلا أنكم سيدي الفاضل تسرعتم قليلا في هذا التعليق، وهو تسرعٌ لا يُنقص من قدركم ولا يُنْغِصُ من علمكم، وقد ظهر لي أنْ أعلق بما أراه حقا على تعليقكم، وأعرضه عليكم فلعلكم تتداركونه فيما يأتي من تصنيفات، أو لعلكم تصححون لي خطأي إن فهمت الأمر على غير وجهه.
قال الشيخ التاويل رحمه الله وهو يتكلم عن رأي أمنا عائشة رضي الله عنها في تعذيب الميت ببكاء أهله: “وكانت عائشة رضي الله عنها لا تؤمن بذلك وتنكره، روى أبو داود الطيالسي عن ابن أبي مليكة قال: أتيت عائشة فذكرت لها ما قال ابن عمر وابن عباس عن عمر أن الميت يعذب ببكاء أهله فقالت: والله إنك لتخبرني عن غير كاذب ولا متهم ولكن السمع يخطئ، ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا أن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد ولكنه قال: إن الكافر يزداد عذابا ببكاء أهله عليه وإن في القرآن ما يكفيكم ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ﴾[1] وقد وافقها أبو هريرة فقد روي عنه أنه قال: والله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد فعمدت امرأته سفها وجهلا فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد ببكاء هذه السفيهة، وبقول عائشة وأبي هريرة يقول المالكية”[2].
وعلقتم عليه قائلين: “هذا الحديث ليس فيه موافقة أبي هريرة رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها بل هو صريح في مخالفته لها، فلعل خلطا أو لبسا ما وقع للشيخ رحمه الله في هذه الجزئية. قال الشيخ التاودي بن سودة في حاشيته على صحيح البخاري ما نصه: وقد اختلف الصحابة فمن بعدهم في هذه المسألة –أي تعذيب الميت ببكاء الحي عليه- فقال به مطلقا عمر وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة فقد روى عنه أبو يعلى أنه قال: لئن انطلق رجل يجاهد في سبيل الله فاستشهد فعمدت امرأته سفها أو جهلا فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة وقيل لا يعذب مطلقا وهو قول عائشة لقوله تعالى ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ﴾[3] انتهى منه نصه”[4].
وألفت نظركم أستاذي الفاضل إلى أنه لم يقع للشيخ أي خلط أو لبس، والذي أورث ما ظننتموه ذلك؛ خطأُ الناسخ أو الناقل من مسودة الشيخ؛ فلم يُثْبِتْ ما يدل على الاستفهام (؟) بعد كلام أبي هريرة رضي الله عنه، فإنه مَسُوقٌ مساق الاستفهام الإنكاري، ومراد أبي هريرة رضي الله عنه تقديرا: أتريدون أن تخبروني أن رجلا مجاهدا في سبيل الله استشهد فقامت زوجته جهلا فبكت عليه أنه يعذب ببكائها؟ لا والله.
هذا تقدير كلام أبي هريرة رضي الله عنه، ولذلك هو صريح في موافقته لرأي أمنا عائشة رضي الله عنها لا مخالفا لها كما صرحتم في التعليق وأكدتم عليه، والذي يدل على هذا ما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد عن بكر بن عبدالله المزني أنه ذكر عنده أَمْرَ الْمَيِّتِ يُعَذَّبُ بِبُكاءِ الْحَيِّ فقال حدَّثَنا رَجُلٌ مِنْ أَصْحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكانَ أبو هُرَيرَةَ خالَفَهُ في ذلِكَ فقال قال أبو هريرَةَ واللهِ لَئِنْ انطَلَقَ رجلٌ مُحارِبًا في سَبيلِ اللهِ ثم قُتِلَ في قُطْرٍ مِنْ أقطارِ الأرضِ شَهِيدًا فعمدَتْ امرأَتُهُ سفَهًا أو جهْلًا فبَكَتْ علَيْهِ لَيُعَذَّبَنَّ هذا الشهيدُ بِبُكاءِ هذه السفيهةِ عليه؟ فقال رجلٌ صدَقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَبَ أبو هريرةَ صدَقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكذَبَ أبو هريرةَ.
فالمفهوم من كلام بكر أنه روى عن صحابي حديث تعذيب الميت ببكاء أهله وكان أبو هريرة على خلاف ذلك فقال أبو هريرة: واللهِ لَئِنْ انطَلَقَ رجلٌ مُحارِبًا في سَبيلِ اللهِ ثم قُتِلَ في قُطْرٍ مِنْ أقطارِ الأرضِ شَهِيدًا فعمدَتْ امرأَتُهُ سفَهًا أو جهْلًا فبَكَتْ علَيْهِ لَيُعَذَّبَنَّ هذا الشهيدُ بِبُكاءِ هذه السفيهةِ عليه؟ فرد عليه الرجل: صدق رسول الله وكذب أبو هريرة، فقدّم الرجل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعذيب الميت ببكاء أهله على رأي أبي هريرة رضي الله عنه بعدم العذاب.
ورواية الهيثمي ليس فيها بيان للصحابي راوي الحديث الذي رد على أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي مسند أبي يعلى[5] قال: حدثنا زحمويه، حدثنا صالح، حدثنا حاجب – يعنى ابن عمر – قال: دخلت مع الحكم الأعرج على بكر بن عبد الله فتذاكروا أمر الميت يعذب ببكاء الحى، فحدثنا بكر قال: حدثنا رجل من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان أبو هريرة خالفه في ذلك فقال: قال أبو هريرة: والله لئن انطلق رجل محاربا في سبيل الله ثم قتل في قطر من أقطار الأرض شهيدا فعمدت امرأة سفها أو جهلا فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد ببكاء هذه السفيهة عليه، فقال رجل: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب أبو هريرة، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب أبو هريرة.
ففي الحديث أن الداخل على بكر بن عبد الله هو حاجب ابن عمر، وبَوَّب الحديث بقوله: “مسند سفينة رجاء رضي الله عنه” وليس في الحديث تسمية له بذلك.
وهي قصة وقعت مثلها لعمران بن حصين، فقد روى النسائي في سننه عن الحسن عن عمران بن حصين قال: “الميت يعذب بنياحة أهله عليه” فقال له رجل: أرأيت رجلا مات بخراسان وناح أهله عليه هاهنا أكان يعذب بنياحة أهله؟ قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبت أنت”[6]
فالباعث على الخلط هو حذف ما يدل على الاستفهام، وإلا فأبو هريرة رضي الله عنه كان ينكر مطلقا تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، وذكر هذا الإنكار ابن حجر بقوله[7]: “وممن روي عنه الإنكار مطلقا: أبو هريرة – رضي الله عنه – كما رواه أبو يعلى من طريق بكر بن عبد الله المزني قال: قال أبو هريرة – رضي الله عنه -: “والله لئن انطلق رجل محاربا في سبيل الله، ثم قتل في قطر من أقطار الأرض شهيدا فعمدت امرأته سفها وجهلا فبكت عليه ليعذبن هذا الشهيد ببكاء هذه السفيهة عليه”.
وقد أثبت علامة الاستفهام البصيري في إتحاف الخيرة، وروايته كالآتي: “وعن الحاجب بن عمر أبي خشينة، عن بكر بن عبد الله المزني قال: اشتكى فأتيته أنا والحكم نعوده، فتذاكرنا الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقال بكر بن عبد الله: قال أبو هريرة لرجل من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم -: ينطلق رجل غازيا في سبيل الله- عز وجل- فيقتل في قطر من أقطار الأرض شهيدا فتبكيه امرأة سفيهة جاهلة فيعذب ببكائها عليه؟ فقال رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة: صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبطل أبو هريرة”[8].
ففي رواية البصيري أن أبا هريرة رضي الله عنه هو من فاتح راوي الحديث بالاستفسار والاستفهام.
وكذلك فعل موسى شاهين في شرحه على صحيح مسلم عند قوله: “والفريق الثاني لا يوافق ابن عمر في أن الميت يعذب بسبب بكاء أهله، فهم يرون أنه لا يعذب أي ميت بسبب بكاء أحد عليه، وإلى هذا جنح بعض الشافعية، وقد رواه أبو يعلى عن أبي هريرة من طريق بكر بن عبد الله المزني قال: قال أبو هريرة: “والله لئن انطلق رجل مجاهد في سبيل الله فاستشهد، فعمدت امرأته سفها وجهلا فبكت عليه، ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة”؟”[9].
وأما نقلكم عن ابن سودة رحمه الله فلعل نفس الوهم وقع له فظن أن أبا هريرة رضي الله عنه يقول بالتعذيب مطلقا، وإنما أبو هريرة رضي الله عنه كما مر لا يقول به بل ينكره.
واعلموا سيدي أن مراسلتي لكم ليست بقصد التنقيص ولا التعريض، وإنما على جهة التنبيه إن كانت حقا، أو على جهة طلب التوجيه إن كانت خطأ.
وتقبلوا سيدي مني كامل الاحترام والتقدير وعظيم الود والمحبة
وكتبه العبد الفقير لربه امحمد رحماني
باحث في سلك الدكتوراه بجامعة محمد الأول بوجدة
الأحد 30 يناير 2022م الموافق ل 27 جمادى الآخرة 1443هـ
وجدة المحروسة
[1] – سورة الأنعام الآية 164.
[2] – انظر مع عائشة ام المؤمنين في حياتها الاسرية ومسيرتها العلمية للشيخ التاويل، ص:97.
[3] – الأنعام:164.
[4] – انظر مع عائشة أم المؤمنين في حياتها الأسرية ومسيرتها العلمية للشيخ التاويل، صفحة:98.
[5] – انظر مسند أبي يعلى الموصلي، ومعه: رحمات الملأ الأعلى بتخريج مسند أبي يعلى، تخريج وتعليق: سعيد بن محمد السناري، حديث رقم 1592.
[6] – أخرجه النسائي في سننه كتاب الجنائز، باب النياحة على الميت حديث رقم 1851.
[7] – انظر فتح الباري لابن حجر، (3/224).
[8] – انظر إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، للبوصيري الكناني الشافعي، تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم المحقق (2/497).
[9] – فتح المنعم شرح صحيح مسلم، الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين الناشر (4/204).