التربية الإعلامية.. أهميتها وفاعليتها ومعيقاتها |
مع تنامي الأضرار والمخاطر التي قد يتسبب بها الاستخدام السلبي أو غير الواعي لوسائل الإعلام، أصبح الكثير من المتخصصين والمثقفين يتحدثون عن التربية الإعلامية باعتبارها مادة دراسية ضرورية. فهل ذلك صحيح؟
لم تعد مؤسسات التنشئة الاجتماعية تقتصر على الأسرة والمدرسة والمجتمع أو الشارع؛ بل أصبح الإعلام أيضا مؤسسة للتنشئة الاجتماعية، نظرا للوقت الطويل الذي يقضيه الأطفال أمام شاشات التلفاز ومع الألواح الذكية، ونظرا أيضا للتأثير الكبير للمضامين الإعلامية على أخلاق الأطفال وسلوكاتهم. وهو الأمر الذي يدركه الآباء والمربون، ويمتعضون منه، بل إن بعض الآباء يربطون عمليا بين ضعف التحصيل الدراسي لأبنائهم وإفراطهم في استخدام تكنولوجيا الاتصال. لكنهم في المقابل لا يجدون من يحدد لهم الطريقة الصحيحة لاستخدام وسائل الإعلام والاتصال، ولا كيف يمكنهم الإشراف على أطفالهم ومتابعتهم في استخدامهم للإعلام وتكنولوجيا الاتصال، ولا ما هي المهارات اللازم تعليمها لهم.
كان تأثير البرامج التي تقدم محتويات عنيفة على الأطفال أول ما انتبه إليه المتخصصون، فرصدوا العلاقة بين التعرض لمحتويات إعلامية عنيفة والقيام بسلوكات عنيفة تجاه الآخرين |
تهتم التربية الإعلامية (Media literacy) بحماية مستهلكي المضامين الإعلامية من بعض التأثيرات السلبية للإعلام، خصوصا الجمهور “الصغير” من أطفال ومراهقين. وقد كان تأثير البرامج التي تقدم محتويات عنيفة على الأطفال أول ما انتبه إليه المتخصصون، فرصدوا العلاقة بين التعرض لمحتويات إعلامية عنيفة والقيام بسلوكات عنيفة تجاه الآخرين. وهي العلاقة التي اتفق الجميع على وجودها وإدانتها، لكن مع الاختلاف في جزئيات التفسير: هل العنف التلفزيوني هو السبب المباشر للعنف السلوكي؟ أم هو يحفز فقط الاستعداد للعنف الذي يوجد أصلا عند بعض الأطفال؟
تستجيب التربية الإعلامية لحاجة فعلية وواقعية تتمثل في ضرورة حماية الأفراد من التأثيرات السلبية لبعض المضامين الإعلامية، في عصر أصبحت فيه تكنولوجيا الاتصال تحيط بنا من كل جانب، وتقصفنا في كل لحظة بالعديد من رسائلها الإعلامية. ولعل تنامي الوعي بخطورة الإعلام، هو الذي كان السبب في انعقاد مؤتمر فيينا عام 1999م، تحت شعار: “التربية من أجل عصر الإعلام والتقنية الرقمية”. وفي إطار التوصيات التي رفعها المؤتمر إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، اقترح تعريفا مرجعيا للتربية الإعلامية باعتبارها التعامل مع جميع وسائل الإعلام والاتصال المختلفة، وتمكين الأفراد من فهم رسائلها الإعلامية، وإنتاجها، واختيار الوسائل المناسبة للتعبير عن رسائلهم الخاصة.
كيف ترون واقع تدريس التربية الإعلامية في العالم العربي؟
انتبهت العديد من الدول إلى أهمية التربية الإعلامية بشكل مبكر؛ مثل استراليا وإنجلترا اللتين أعدتا برامج رائدة في هذا المجال، أما كندا فقد جعلت التربية الإعلامية مادة إلزامية منذ عام (1987) في التعليم الثانوي، وبدءا من عام (1995) تم فرضها إلزاميا على كل طلاب الصفوف من الأول إلى التاسع. هكذا أصبحت التربية الإعلامية مادة دراسية أساسية في العديد من بلدان العالم مثل أستراليا وشيلي والهند وإنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية…
وفي مقابل ذلك، هناك تأخر كبير في تدريس التربية الإعلامية في الدول العربية؛ رغم الوعي المتنامي عند عموم المثقفين ومعظم الآباء والأمهات والمربين بالتأثيرات السلبية للمضامين الإعلامية على الأطفال. ونتمنى أن يثمر هذا الوعي إدراج مادة التربية الإعلامية في المقررات التعليمية العربية.
هل يمكنكم تقديم تعريف دقيق ومبسط للتربية الإعلامية؟
هناك تعريفات عديدة للتربية الإعلامية، وهي تركز على مهارات التعرض النقدي الواعي لمضامين وسائل الإعلام، من خلال امتلاك مهارات الفهم والتحليل النقدي، والتذوق الجمالي والفني للرسائل الإعلامية؛ لكن يغيب عن هذه التعاريف البعد التربوي أو التعليمي، فهي تعبر عن “حالة نهائية” من المهارات المتحصلة، ولا تحيل إلى عملية التربية الواردة في التعريف.
ولعل هذا مرده إلى أن المصطلح الشائع أكثر في الأدبيات الغربية هو “Media literacy” والذي قد نترجمه حرفيا إلى “محو الأمية الإعلامية” (وهي بدورها ترجمة منتشرة نسبيا في الأدبيات العربية) وربما يحيل أكثر على امتلاك ثقافة إعلامية أكثر مما يحيل على عملية التربية التي تتضمن على الأقل ثلاثة عناصر: المربي، والتدخلات التربوية، والفرد الخاضع للتربية.
لذا فقد اقترحت في دراسة منشورة في العدد 186 من مجلة عالم الفكر، تعريفي الخاص التالي للتربية الإعلامية: “التربية الإعلامية هي مجموعة من التدخلات المنهجية والمنظمة، ذات الطابع التربوي والتعليمي، التي تهدف إلى تمكين الأفراد من مهارات التعرض النقدي والواعي لمضامين وسائل الإعلام والاتصال، ومن القدرة على الاستخدام الآمن والإيجابي لوسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال. وذلك من خلال تزويدهم بمهارات التلقي والتحليل النقدي، والتذوق الجمالي والفني للرسائل الإعلامية، ومهارات إنتاج المضمون الإعلامي أو تداوله”.
كيف تتحدد أهمية التربية الإعلامية في نظركم؟
أمام الطفرة الكبيرة التي يعرفها الإعلام، وتعدد القنوات والفضائيات، وتنوع وسائل الإعلام والاتصال، يصبح من المستحيل على الآباء إخضاع أبنائهم إلى مراقبة صارمة في كل لحظة وكل مكان؛ لذا يبقى الحل الوحيد هو التربية الإعلامية، التي تؤهل الناشئين للاستخدام الصحيح لتكنولوجيا الإعلام والاتصال، وتزودهم بالمهارات اللازمة لامتلاك الحصانة الأخلاقية والمعرفية، وحس التذوق الفني والجمالي.
وقد أورد درويش عبد الرحيم مجموعة من العناصر التي تبرز أهمية التربية الإعلامية نقتبسها عنه بتصرف:
- قيام بعض وسائل الإعلام ببث مواد غير مسؤولة في ظل الحرية التي يحظى بها الإعلام في الفترة الحالية وخصوصا بعد فتح المجال للإعلام الخاص وانتشار القنوات الفضائية مما قد يؤثر سلبا على الأطفال والشباب. إضافة إلى انتشار بعض الظواهر السلبية في المجتمع مثل تفسخ العلاقات الأسرية والإدمان والتطرف والعنف والجريمة كمؤشرات للمواد الإعلامية التي يتم التعرض لها. وهنا تظهر أهمية التربية الإعلامية في تعليم مهارات التعرض النقدي للمضامين الإعلامية؛
- عدم تنبه بعض الأسر للدور الخطير الذي يمكن أن تقوم به وسائل الإعلام في تنشئة أبنائها وعدم قيام الأسر في الوقت ذاته بمسئوليتها تجاه الأطفال والمراهقين من خلال الإشراف عليهم ومساعدتهم في اختيار ما يتعرضون له، وذلك في ظل انتشار ظاهرة الثقافة المرئية مما قد يؤثر بالفعل على ثقافة الكلمة المطبوعة وعلى عادة القراءة. وهنا تظهر الأهمية التربية الإعلامية في التوجيهات التي تقدمها للأسرة؛
- أهمية التعرض للمضامين الإعلامية المفيدة ونشر التربية الإعلامية في المجتمع كحائط صد يحمي المجتمع من التأثيرات الضارة لبعض وسائل الإعلام؛
- إمداد المواطنين بالقدرة على تحليل مواد وسائل الإعلام وفهمها وإنتاجها، من أجل إنتاج مواد أكثر إفادة تعبر عن وجهات النظر المختلفة لتعزيز الديمقراطية بدلا من قصر هذا الحق على القادرين ماديا وتكنولوجيا؛
- الحد من العوائق التي تواجه نشر التربية الإعلامية في مجتمعاتنا وتعليم الأفراد استراتيجيات القيام برد فعل تجاه المواد غير المسئولة إعلاميا.
وهل من معيقات تحد من فاعلية التربية الإعلامية؟
تصطدم التربية الإعلامية بالعديد من المعيقات التي تجعل فاعليتها محدودة، وتعوق تحقيق أهدافها، ومن بين هذه المعيقات نذكر:
- يعتقد الكبار أنهم في مأمن من التأثيرات السلبية للإعلام، وأن الصغار فقط هم المتضررون المحتملون. وهذا الاعتقاد لا يشجعهم على الإقبال على التربية الإعلامية. بل ويجعل الأطفال أكثر عرضة لأضرار الإعلام أمام راشدين هم أنفسهم يجهلون مبادئ التربية الإعلامية وبالتالي لا يستطيعون الإشراف على أطفالهم في هذا المجال؛
- قوة تأثير الخطاب الإعلامي الذي يخاطب العاطفة والمشاعر ولاوعي المتلقي، مما يصعب على الفرد الانتباه إلى تأثير الإعلام وهو واقع أصلا تحت تأثيره عاطفيا؛
- خصوصيات الأفراد واختلاف قدراتهم وشخصياتهم، مما يجعل مهارات وحالات التلقي مختلفة من فرد إلى آخر، لذا وجب تطوير تكوينات مرنة وخلاقة في مجال التربية الإعلامية؛
- انتظارات الجمهور؛ إذ في العادة يقبل الناس على التلفاز مثلا بغرض الاسترخاء والمتعة بعد يوم عمل شاق، لذا من الصعب أن نطلب منهم التركيز والانتباه واستخدام العقل النقدي وهم يبحثون أصلا عن الاسترخاء؛
- الاستغلال التجاري للجمهور من قبل مؤسسات الإعلام، حيث يوظف الإعلام استراتيجية قوية لجلب الجمهور وجعله دوما في وضعية تلقٍّ سلبية واسترخاء مما يصعب الاستهلاك النقدي الواعي؛
- تعدد وسائل الإعلام وتنوعها، مما يجعل منطق التلقي مختلفا من وسيلة إلى أخرى، فنحتاج مهارات للتلقي التلفزيوني ومهارات لتلقي الإعلام المقروء، ومهارات للتعامل مع الهواتف الذكية..؛
- تصمم المضامين الإعلامية أصلا للكبار، مما يضاعف خطرها على الصغار الذين عادة ما يجلسون إلى جانب الكبار أثناء مشاهدة التلفاز مثلا.
كيف ترون مستقبل التربية الإعلامية؟
يمكن أن نلاحظ انتشارا كبيرا للوعي بأهمية التربية الإعلامية في العالم العربي، إذ لم يعد الاهتمام بها مقتصرا على الجامعات، بل ساهمت الصحافة في نشر هذا الوعي.. سواء من خلال تغطية الموضوع بطريقة مباشرة، أو من خلال تغطية الحالات التي يكون فيها الأطفال ضحية للعديد من الأخطار المرتبط بوسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال، مثل الاستقطاب الذي يتعرضون له من قبل التنظيمات الإرهابية، أو إقدامهم على إذاية أنفسهم أو الانتحار إثر مشاركتهم في ألعاب إلكترونية تحثهم على ذلك، أو تعرضهم للتحرش الجنسي عبر مواقع التواصل الاجتماعي. بمعنى أنه يمكننا القول بأننا أقرب من أي وقت مضى إلى أن تعتمد التربية الإعلامية كمادة دراسية أساسية.
غير أنني أحرص على التنبيه إلى جملة أمور:
- ينبغي الحديث عن التربية الإعلامية والرقمية، نظرا لهيمنة تكنولوجيا الاتصال الرقمية؛ وتنامي استخداماتها.. بحيث لم تعد وسائل الإعلام التقليدية – وعلى رأسها التلفزيون- هي الوسيلة الأساسية التي يتعامل معها الأطفال؛ بل أصبح التلقي الإعلامي تجربة فردية مع انتشار الألواح الرقمية والهواتف الذكية؛
- من غير الملائم أن تكون الوقاية من الأضرار المحتملة لوسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال هي الفكرة الموجهة لنا في اعتماد تدريس التربية الإعلامية والرقمية؛ إذ ستفوت علينا هذه الرؤية إمكانات هائلة شبابنا في أمس الحاجة إليها؛ وإنما المنطلق الحقيقي هو السؤال التالي: كيف نجعل من استخدام أبنائنا لوسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال تجربة آمنة وممتعة ومفيدة ومبدعة؟ هذه العناصر الأربعة أساسية في التعاطي مع الموضوع، إذ يتعلق الأمر بالحماية، مع الحرص على إبقاء المتعة مراعاة لخصوصيات الطفل، وهي المتعة التي ستشجع الطفل على الاستفادة من مزايا تكنولوجيا الاتصال، ثم الارتقاء به إلى مقام الإبداع.
- إن التحول الرقمي الحاصل في جميع بلدان العالم، والمغرب جزء منه، يبشر بتحولات هائلة في تنظيم المجتمع، وفي المهن التي سينقرض بعضها وتتغير طبيعة بعضها وستظهر أخرى جديدة.. وهذا يخرج التربية الإعلامية والرقمية من دائرة الحماية ويدخلها في مجال امتلاك مؤهلات التواجد الإيجابي في المستقبل وأدوات إثبات الذات والمنافسة. فهل سنستطيع منح أطفالنا مفاتيح قيادة المستقبل الرقمي أم أننا سنبقى حبيسي الخوف من أضرار تكنولوجيا الاتصال؟
وفي الختام، ينبغي التأكيد على أننا تأخرنا بشكل مقلق في إدراج التربية الإعلامية والرقمية باعتبارها مادة دراسية أساسية؛ ورغم التحديات التي ستواجه المسؤولين من قبيل وضع المناهج الملائمة وتأهيل المدرسين وغيرها.. فإن التراكم الحاصل في الإنتاج النظري المرتبط بالموضوع، وفي التجارب الدولية الناجحة؛ يبشر بنجاح المبادرة، خصوصا إذا تم الانفتاح على الجامعة وعلى الخبراء في هذا المجال.