الجماهير في حاجة إلى من يقودها، ولا يستقيم أن تحتل بحال موقع القيادة. لا عقل للجماهير، وعقلها عاطفتها، كما يقول غوستاف لوبون في “سيكولوجية الجماهير”. إنها في حاجة إلى قيادة واعية، تجعل من قيادتها للجماهير فعلا شعبيا، لا تخضع لرغبتها (الجماهير) فيستحيل سلوكها وتدخلها حالة من الشعبوية.
وأفظع من ذلك، أن العالم يعيش حالة من التقهقر -ربما- غير مسبوقة، بسبب تعفن النظام الاجتماعي السائد عالميا، في ظل فوضاه واحتضاره. العالم يعيش، مع بعض المبالغة الإجرائية، نوعا من الرجوع إلى “الطوطمية”، لا يعبد “الطوطم” ولا “القوى السارية”، ولكنه يعبد هواه، البطن وما حوى، شهوتي البطن والفرج وما تعلق بهما بصريح العبارة.
تحت قناع الفن، اخترقتنا ثقافة دخيلة، ثقافة جاءت بها رياح هذه الأزمة التي نتحدث عنها. ثقافة استهدفت الجماهير، وهذه عاطفية سرعان ما تتقهقر عائدة إلى غريزيتها وغابويتها. جاءتنا هذه الثقافة محملة ب:
– نوع دخيل من الفن: لا هو بالفنون المغربية حيث تلتقي جغرافيات وتواريخ، ولا هو بالفنون العربية الإسلامية، ولا هو بالفن الإفريقي أو الأمازيغي أو غيرهما؛ فن دخيل أنتجته شروط اجتماعية في الغرب كتعبير عن أزمة هناك، فأبى الغرب إلا أن يصدرها إلى دول الجنوب، ومنها المغرب.
– نوع دخيل من اللفظ: فمن صميم هذا الفن أن ترتفع حدود أدب اللفظ، فيعبر الفنان عمّا يشاء وكيف يشاء، لا تحده في ذلك حدود الفضاءات العامة أو الخاصة ذات الأعراف والتقاليد العتيقة. وهكذا، لا يكون الكلام النابي منكرا أخلاقيا، بل تعبيرا فنيا تصرخ له الجماهير.
– نوع دخيل من الحياة: حياة اللامبالاة، واضطراب الأفق والمسار، بل والتشجيع على ذلك كسبيل للخروج من هموم الواقع الاجتماعي والتفكير الوجودي.
– نوع دخيل من النضال: حيث تشتيت الجهود وتزييف وعي الجماهير، ترقص لنغمة صاخبة عوض أن تصرخ للقمة ضائعة أو تدافع عن قيمة مستهدفة. تقاد باللامبالين بل تقودهم، عوض أن تقاد بالفقهاء والمثقفين والزعماء، إلخ.
لا يتجلى دور الحكومات في مسايرة الجماهير وتشجيعها على تفاهتها وزيف وعيها، بل في توجيهها وتخليق وتنظيم وجودها وقيادتها بالوعي.
دور الحكومات أن تحمي حدودنا، لا الترابية والسياسية والاقتصادية فحسب، بل الثقافية أيضا. دورها أن تنفق أموال الشعب على ما ينفع الشعب، لا على ما يضره ويضر بمصالحه.
دور الحكومات أن تخضع للمصلحة العامة وتخدمها بتفان وإصرار ووعي، لا أن تخضع في بعض قطاعاتها لأعضاء بعض وزرائها أو ميولاتهم الخاصة. فلا أخطر من أن يستهدَف تاريخ 12 قرنا من الحضارة بأهواء فرد!