عشرة أوتادٍ جبالٍ… لبيان حال المغاربة وغيرهم في الزلزال د. طارق الحمودي

  • هنا يبدأ الوعي

ضرب الزلزال منطق الحوز في الساعة الحادية عشر وعشر دقائق، فسقطت “مقانة” مع ما سقط، موثقة تاريخه، وتوقفت ألسنتها عن الحراك، مثل كثير ممن دفنوا شهداء إن شاء الله تعالى تحت ركام الحجارة والتراب، ثم ساد هدوء طويل، قطعته النداءات والبكاء بعد الانتباه من الصدمة، ولم ينشغل الناس إلا بالبحث عن أقاربهم، وجف الدمع من كثرة البكاء، ومع ارتفاع شمس يوم السبت، وصلت أولى المساعدات إلى المكان، وكان الجيش المغربي قد بدأ الانتشار…والانتشال.

  • أياد بيضاء… من دول مختلفة

حدثني صديق لي عن كثير مما رآه وسمعه وأحس به، وكان ممن سارع ضمن حملة إغاثة وطنية إلى مساعدة المتضررين بما استطاعوا جمعه بتنسيق دقيق لائق بعمل المشتغلين في العمل الجمعوي الإغاثي والاجتماعي، وهو ما غاب في كثير من المبادرات للأسف، وإن كان عذرهم أنهم لم يجدوا وقتا للتفكير في ذلك،  كان صديقي يراسلني كلما جدّ شيء عنده، وكنت أقارنه بما يصلني من معلومات موثقة بالصوة والصورة أحيانا وأجمعها، أحاول بذلك تلمس حقيقة ما يجري هناك، وكان من أعجب شيء إلي، أنه حينما وصل مع أعضاء قافلته إلى أحد الدواوير وجد أفرادا من الجيش المغربي ينتشلان طفلين من تحت الركام، وكان ذلك سبب أول دمعاته حزنا على الشهداء، استمر صديقي، واسمه “محمد“، يسرد لي ما رأى وما يرى، أثناء تجواله بين الدواوير بالمعونات، وحوله أفراد إغاثة من جنسيات مختلفة، من البحرين وتركيا وسوريا وإسبانيا وقطر والإمارات، وكان صديق آخر اسمه “محمد” أيضا، يغرقني بالمقاطع المصورة الحاكية عنه ما يراه، وكنت أندهش لما يصلني منهما، بل منهم. !

  • مروحية إسباني … في جبال الأطلس

كان من الحوادث المثيرة التي حكاها لي، أن شابين من المتطوعين، أخبراه أنهما وجدا عند وصولهما إلى أحد القرى العالية جدا، مروحية صغيرة يقودها سائح إسباني أو مقيم، يحمل بها معونات لمنطقة عالية، ثم يرجع نازلا ومعه جرحى، وقد رأيت أنا في كثير من المقاطع أطباء قدموا من دول مختلفة، فيهم جراحون متخصصون جاؤوا بسياراتهم عبر ميناء طنجة الدولي، أما أطباؤنا والمتدربون معهم فحدث ولا حرج، فقد امتلأ بهم مستشفى محمد السادس بمراكش عند “الصدمة الأولى“.

  • الضباط… وفاء واحترافية وانضباط

كانت استفاقة المغاربة من الصدمة سريعة وواعية، وكان على رأس هؤلاء أفراد الجيش الملكي والدرك الملكي، والقوات المساعدة وفرق الوقاية المدنية، وقد أبلوا بلاء حسنا، حرفية وانضباطا وتفانيا في العمل، كيف لا وقد كان كل واحد منهم يعلم أنه في الطريق إلى إنقاذ حياة أو إسعاف مصاب، وربما كان واحد من أولئك من أقاربه أو أصهاره، ويكفي أنهم إخوانهم في الدين والوطن، بل وفي الإنسانية أيضا، وما رأيناه منهم في البر والجو كان مثيرا للاعتزاز والإعجاب، وكان الأجمل في كل ذلك، ما ظهر من التنسيق اللطيف بين الهيئات المدنية العاملة وبين هذه الفرق المختلفة، بل أخبرني صديقي محمد أنهم تقاسموا أحيانا الطعام مع بعض أفراد الجيش، بل مع بعض القياد في المنطقة، و”فْرْقوا الطعام”.

  • فرنسا… لا نريد مساعدتك

سارعت فرنسا ماكرون إلى توريط نفسها في إذلال ديبلوماسي آخر مع المغرب، حينما عرضت عليه مساعداتها، وكان أن صدم ماكرون وزملاء فريقه الحكومي من هذا الرد والرفض، وحسبوه إهانة ديبلوماسية لشخص فرنسا، وجرحا لكبرياء الجمهورية العلمانية، وقد ثار الطرف “المستكبر” من الإعلام الفرنسي يرمي المغرب بأنواع من التنقيص والتوبيخ، بل وصل الكبرياء  بوزيرة الخارجية أن زعمت لقاء مرتقبا بين ملك المغرب وبين ماكرون، بدعوة ملكية، وهو ما نفته الديبلوماسية المغربية بلغة بالغة في الإذلال له والنفوذ في إظهاره، فكان ذلك من المغرب قرصة أذن، ومن فرنسا دليلا على خيبتها، وعلى أن ما وصف به “جهبذ الإعلام المغربي” ، الأستاذ ” محمد الصديق معنينو” ما كرون صحيحا، فقد أثبت ماكرون أنه “برهوش” في التدبير السياسي، داخليا وخارجيا.

  • إبداعات مغربية

لم تكن الهبَّة المجتمعية، بالهِبة الإنسانية، لنجدة المتضررين من زلزال الحوز مثيرة للعالم كمًّا فقط، بل نوعا أيضا، فقد أبدى المغاربة، وكشف نخبة من شبابهم عن أن حالة الإبداع عندهم مستمرة، لا يمنعها إلا سوء التدبير السياسي للحكومات، وقصد أطراف عالمية إلى قتل روح المبادرة والإبداع عند الشباب المغربي، فقد رأينا كيف تحول الأمر في منطقة الحوز إل تنافس عجيب بين الشباب في إبداع طرق للتخفيف من آلام الناس، وتحسين حياتهم اليومية في هذه الظروف ليلا ونهارا، فقد استطاع بعض الشباب توفير الإنترنت العامل عبر أقمار ماسك، واستطاع آخرون توفير الإضاءة بالألواح الشمسية، وبعضهم وفر “الكنف“، وبعضهم منازل مركبة وهلم جرا جرا، فلولا المعيقات، لكان للمغاربة شأن أكبر، فالإبداع محرك الإقلاع.

  • الله الوطن الملك

لا أزال أحس برعشة في بدني، منذ طفولتي، وأنا أسمع النشيد الوطني، خاصة حينما ينطق بعبارة “الله الوطن الملك“، وأخص الأخص إذا ارتفعت بها أصوات كثيرة في وقت واحد، فإنها تزلزل الملاعب بأهلها، وكنت أتساءل دائما، ما السر في هذه العبارة؟ وما سر ترتيب مفرداتها؟ وقد اجتمع بعد ذلك عندي كثير مما يفسرها، حين قرأت التاريخ المغربي، وأعدت النظر في أحداثه، وكان الذي حدث بعد الزلزال كالخاتم المسكي على كل ذلك، فمجرد أن وعى المغاربة ما جرى، ظهرت ملامح “الوطن” جلية ظاهرة، في هذا التلاحم المستمر بين المغاربة، وزكى ذلك قطع”الملك” محمد السادس وفقه “الله” للخير زيارته لفرنسا، والبدء في مباشرة ما هو أهله، وهو النظر في حال الكارثة الحالة، واستمرت المتابعة الملكية ولا تزال مستمرة،  وقدكانت تصرفاته وقراراته تدل على أن الملكية في المغرب هي صمام الأمان لهذا البل بتوفيق من الله تعالى.

  • العلمانيون المغاربة… داخل الزلزال

كانت “القومة” المغربية مليئة بمشاعر التضامن والتكافل، ولم يتفلت من عين الناظر المتفحص أن المغاربة “المتضامِن” و”المتضامُن معه” اشتركوا في إحساس عميق بالانتماء إلى هوية جامعة، فمع “التمغربيت” ،كان الانتماء الديني قويا جدا، رأيناه وشهِد عليه من وصل إلى الأماكن المتضررة، فقد وجدوا الناس يذكرون الله ويعظمونه، يحوقلون ويحسبلون، حامدين الله على كل حال، وهم الذين بادرت طوائف من نسائهم إلى البرهنة على ذلك بطريقة عملية، فحملن على أكتافهن الحجارة الإسمنتية الثقيلة، صاعدات إلى أعلى الجبل للمساعدة في إتمام بناء مسجد قريتهن، ولسن هن من سيلازمنه، بل أزواجهن وأولادهن، طائفة واحد كانت خارج هذا الإجماع، طائفة بني علمان الملاحدة، الذين غاصت ظهورهم في “بطانة كنباتهم“، واشتغلوا بالقيل والقال، ونقد العاملين من مكان عال، وما ضر ذلك الرجال متسلقي الجبال، إذ كان صراخا في مكان خال.

  • أمازيغ الأطلس… دين وعفة وكرم

أبى أهلنا في الأطلس الكبير إلا أن يكرمونا بتحف أخلاقهم، وكان ما ضربوه من أمثلتها منبها على أصالة الناس وعتاقة أخلاقهم، قوم إذا جئتهم بالمعونة، دعوك لمائدتهم يتقاسمونها معك، بل ربما آثروك بها كرما، ولعلهم يردون عنهم شيئا من ذلك بدعوى اكتفائهم، قناعة وعفة، وبين دين وهمة وعفة وكرم، رجع الذين ذهبوا يواسونهم يضربون كفا بكف، مسترجعين ما تعلموه منهم وسمعوه، من حكم أمازيغية أطلسية، تكاد الألسنة تجمع، على أنهم وجدوا جميعا منبع “الهوية المغربية“، كما وجد “جيمس بورس” منبع النيل سنة 1771 م.

 

  • الزلزال بين المحنة والمنحة

بين المحنة والمنحة، خرج المغاربة يتفقدون “ذواتهم” و”محل أقدامهم“، رجعوا إلى بيوتهم يتفقدون نفوسهم، محاولين الإجابة عن أسئلة خطرت، قاصدين إلى إعادة النظر في كثير من أفكارهم ومواقفهم وتصرفاتهم، محنة واقعة لا رافع لها، ومنح طبيعية وإنسانية خففت وكشفت، خففت آلاما، وكشفت عن معادن الناس وأخلاقهم، فقد بحث الناس عن رئيس الحكومة في اليوم الأول، حتى ظنوه ممن دفن تحت ركام البيوت في مراكش، وكذلك باقي أفراد أسرته الحكومية، وكذلك رأى الناس ما فجره الزلزال من عيون الماء، وعيون المال، فاستبشر المغاربة بذلك أيما استبشار، وقد علموا أن لا حكومة تفي وتكفي سوى الوعود البعيدة المعيبة، وإنما الملجأ إلى الله، ثم إلى الوطن والملك، وبهما يرفع الله البلاء، ويخفف الآلم ويغرس الأمل، فنسأل الله أن يحفظ البلاد من أيادي الفساد، وأشرار العباد، وهادمي البلاد.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *