علاقة العرب بالخلافة العثمانية.. عبد الصمد ايشن

من بين الانتقادات التي وُجهت للدولة العثمانية أنها نبذت “العرب” وأنه لم يوجد عربي تقلد منصبًا في هذا العهد، وأن بلاد العرب لم تكن إلا الخزينة التي يحصل منها المركز على ما يريده من أموال، وأن المناصب كلها كانت في يد “الأتراك”، وهو أمر تُكذبه الأصول التاريخية التي بين أيدينا، فكتب التواريخ والتراجم والوثائق الخاصة بهذا العهد تذخر بالأسماء العربية التي نالت مناصب عالية بداخل أقطارهم العربية أو بداخل عاصمة الدولة نفسها، مما يقوض هذا الادعاء ويهدمه؛ فلفظة “التركي” نفسها في التاريخ العثماني كانت تُطلق على “الفلاحين” الذين يزرعون الأرض في الأناضول، وهيا تُقابل لفظة “الأعرابي” أو “البدوي” في شبه الجزيرة العربية.

لا يخفى على أحد أن الدولة العثمانية لم تكن قوة استعمارية في العالم العربي، ولا سببًا لتخلفه. هذه مزاعم غربية بحتة، نشرتها جهات غير مسلمة في القرن التاسع عشر، بهدف شرعنة الاستعمار من قبل الفرنسيين والبريطانيين، وإخفاء مذابحهم. الأتراك لم يمارسوا الصهر القومي، أو سياسة التتريك بحق العرب لغاية الحرب العالمية الأولى، وأن العرب استفادوا من الحكم العثماني الذي استمر 400 سنة، مشيرا إلى أن مزاعم التخلف طرحتها القوى الإمبريالية الغربية في القرن التاسع عشر.

باتت الشعوب العربية برمتها تدرك ماهية المشاريع، التي يحاول الغرب تنفيذها في العالم العربي خلال 200 سنة الماضية. أمّا المجازر التي ارتكبوها تحت ذريعة الحضارة والديمقراطية بدءا من الجزائر وحتى العراق، فإنها لا تزال حية في أذهان الشعوب العربية حتى يومنا هذا. في هذا الصدد، يقول المفكر الصهيوني المعروف “إسرائيل شامير”، إن الغرب لم يحقق الاستقرار للعالم العربي، ما بعد الدولة العثمانية، بل حوّل بلدانه إلى حمام من الدماء، وكتب في مقال له قبل سنوات عودي أيتها الدولة العثمانية. ويعترف شامير بأن العالم العربي عاش الاستقرار الحقيقي إبان العهد العثماني.

تعود العلاقات التركية العربية إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، فبعد أن اعتنق الأتراك الإسلام بشكل جماعي، شاركوا في الحروب ضمن صفوف الجيوش العربية، وكذلك شارك العرب في الجيوش التركية من أجل محاربة الأعداء. وتعد معركة طلاس التي وقعت عام 751 المثال الأول على ذلك، حيث خاض الأتراك والعرب نضالًا مشتركًا ضد الصين.

ولم يقاتل العثمانيون العرب أبدا، ولم يستعمروا الأراضي العربية، كانت الحملة التي نفذها السلطان ياووز سليم على مصر، بسبب عدم قدرة المماليك على حكم بلاد المسلمين، وتحالفهم مع الفاتيكان. كما أن المماليك ليسوا عربا بل أتراكا، وكانوا أول من استخدم الاسم التركي في التاريخ، وأطلقوا اسم الدولة التركية على دولتهم في مصر.

تبنى العثمانيون اللغة العربية، باعتبارها لغة مقدسة ومعنوية، لذلك كان التعليم في المساجد والمدارس باللغة العربية. استخدم العثمانيون الحروف العربية في الكتابة، وكانت الكلمات العربية تشكل نحو 60% من إجمالي الكلمات العثمانية. وفي الأول من نوفمبر 1928 حلّت الأحرف اللاتينية مكان العربية، إثر الانقلاب اللغوي، واستخدمت الكلمات الفرنسية، بدلًا من العربية التي كانت في اللغة التركية.

وكان العثمانيون يكنون احتراما كبيرا تجاه الشعوب العربية، لأنها تتحدث باللغة العربية المقدسة، وكونها من عرق النبي صلى الله عليه وسلم، وأطلقوا عليها اسم «قوم نجيب» (الشعب النبيل) وأولوا أهمية أكبر للسّادة والأشراف من نسل النبي صلى الله عليه وسلم.

حصل العلماء والسياسيون العرب على مناصب رفيعة في المؤسسات العثمانية. يقول الجنرال نوري السعيد باشا رئيس الوزراء العراقي، إن العرب كانوا يعتبرون أنفسهم شركاء للعثمانيين، وتولوا مناصب مختلفة في جميع أركان الدولة العثمانية، مثل رئيس الوزراء (الصدر الأعظم) وشيخ الإسلام، والجنرال، والوالي. وكان خريجو الأزهر بالقاهرة والمدارس في دمشق وطرابلس وحلب يشكلون العمود الفقري للحكومة العثمانية في مجال القانون.

سقطت الدولة العثمانية بشكل فعلي سنة 1909م بسقوط عبد الحميد الثاني، على يد الضباط الأتراك القوميين (معظمهم يهود)، وهؤلاء الضباط هم سبب هزيمة الجيش العثماني، ثم جاء مصطفى كمال وسمى نفسه أبو الأتراك (أتاتورك) وقضى بشكل رسمي على الدولة العثمانية بالتعاون مع ضباط الجيش التركي، وكان الشعب التركي واقفا يتفرج ما بين مؤيد لأتاتورك، وساخط لا حول له ولا قوة. أما العرب فتم تحميلهم مسؤولية سقوط الدولة العثمانية مع أنهم قدموا مئات الآلاف من القتلى طيلة قرون دفاعا عن الدولة العثمانية (سبعون ألفاً في معركة جناق قلعة وحدها)، ومن يبحث في أسماء قتلى الجيش العثماني في تلك المعركة يجد أسماء عربية كثيرة مع ذكر المدن العربية التي تنتمي إليها تلك الأسماء.

وختاماً فإن العرب وقفوا مع الأتراك قرونا طويلة في معاركهم ضد الغرب، ولكن أطرافاً كثيرة تحاول أن تطمس تاريخ ذلك التعاون، وتعمق الشرخ بين العرب والأتراك، متهمين العرب بأنهم سبب سقوط الدولة العثمانية، مع أن الحقيقة التاريخية الراسخة تؤكد أن الدولة العثمانية كبُرت وهرمت، شأنها شأن كل الدول في التاريخ، وطيلة قرن من الزمان حاول سلاطينها منذ السلطان محمود الثاني (بداية القرن التاسع عشر) وحتى السلطان عبد الحميد الثاني، إعادة بناء الدولة وإنعاشها، ولكن المرض كان مزمناً، فكان لا بد من إعلان وفاتها وقيام دولة إسلامية جديدة، وهذا هو حال التاريخ الإسلامي، فما أن تضعف دولة مسلمة وتسقط رايتها، حتى تنهض دولة مسلمة قوية وشابة، ترفع الراية، ولكن هذا ما لم يحدث، فما أن أعلن عن وفاة الدولة العثمانية حتى وجد المسلمون أنفسهم في عشرات الدول، تحت نير قوى الاستعمار المتغطرسة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *