الأخذ بالتقنية الحديثة لا يقتضي تبنِّي القيم الغربية نعم للتحديث لا التغريب

إنَّ أمر بعض الكتاب الغربيين لعجب، إنهم يعترفون بأن بلادهم تعاني من مشكلات أخلاقية واجتماعية توشك أن تهوي بها في مكان سحيق، لكنهم يودون مع ذلك من كل عباد الله في سائر البلاد أن يتبنوا قيمهم التي توشك أن توردهم موارد الهلاك، وإلا كانوا أعداء للحداثة مكتوباً عليهم أن يعيشوا ويموتوا متخلفين، إن توهم اللزوم بين القيم الغربية في الأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع الذي بدأ يشيع في عصرنا منذ زمن طويل، والذي جعل بعض المفسدين ينادي بأخذ كل شيء من الغرب -على عجره وبجره- إن هذا التوهم أسطورة تقوم على عدم التمييز بين الأسباب الفاعلة والملابسات العارضة، كالذي يقول لك إنك لا يمكن أن تأخذ التقنية منهم وتترك رقصهم وأغانيهم وتحريمهم الزواج بأكثر من واحدة، وينسى أو يتناسى أن هذه كانت سيرة القوم قبل أن يكون لهم علم طبيعي أو تكون لهم تقنية، فلا علاقة لهذا بذاك ولا بالعصر الذي نعيش فيه .

لقد كتب منظرهم “فوكوياما” كتاباً أسماه بـ (الانفراط العظيم) ذكر فيه أن الدول الصناعية كلها تعاني من تفكك اجتماعي، عزا معظمه إلى تفكك في الأسرة، وذكر أن من أسباب تفكك الأسرة اختلاط النساء بالرجال في أماكن العمل، وانتشار حبوب منع الحمل، ونظريات جعلت الإباحية تحرراً، وأن هذا كله أدى إلى ازدياد في معدلات الخيانات الزوجية، ومعدلات الطلاق، وأن تفكك الأسرة أدى إلى سوء تربية الأطفال، وإلى نقص في ما يسمونه بالرأسمال الاجتماعي: نقص في الثقة في الزعماء السياسيين، ورجال الدين، وازدياد في معدلات الجريمة، وتعاطي المخدرات.

أَلِمِثْلِ هذا يدعونا “فوكوياما” اليوم إذ يدعونا إلى تبني القيم الغربية، وإذ يزعم أن دعوته هذه ليست ناتجة عما يسمى بالعمى الثقافي، وإنما لأن القيم الغربية هي القيم العصرانية الصالحة لأن تكون عالمية، وأننا إذا لم نأخذ بها فلا أمل لنا في تحديث مجتمعاتنا؟ إن لم يكن هذا هو العمى الثقافي فلا ندري ما هو؟! إن التحديث في جوهره هو الأخذ بكل الوسائل العلمية والتقنية والإدارية التي يتطلبها العصر والتي لا تكون الأمة بغيرها أمة قوية في اقتصادها وسلاحها وإعلامها، فهل يوجد في الإسلام ما يتناقض مع شيء من هذا المطلب؟

ألم يأخذ المسلمون في تاريخهم بكل ما تطلَّبته عصورهم المختلفة في هذه المجالات حتى صاروا إلى نهاية القرن السادس عشر الميلادي القوة العالمية الأولى في مجال التقدم العلمي والتقني والسلاح البري والبحري؟ فإذا كانوا قد حققوا كل هذا في الماضي مع استمساكهم بدينهم فما الذي يمنعهم من تحقيقه تارة أخرى من غير ترك لهذا الدين؟ إن تخلف المسلمين المعاصر في هذه المجالات إن عزي إلى أي شيء فلا يمكن أن يعزى إلى دينهم، إذ ما الذي يجعلهم يَعْمَوْنَ فجأة عن حقيقة دينهم فيرونه متناقضاً مع أمور كانت من أسباب قوتهم وعُلوِّهِم؟ لكن الغربيين والمستغربين معا يوهمون البشرية جمعاء والمسلمين على وجه الخصوص أن للتحديث شرطاً آخر ضرورياً يتناقض مع شريعة رب العالمين: إنه العلمانية، فصل الدين عن الحياة وليس عن الدولة فقط، وجعل الدين أمراً فردياً خاصاً، زاعمين أن السلم المدني لا يتأتى إلا في نظام علماني لا يكون للدين فيه نصيب. لكن تاريخ الغرب يحدثنا بأن العلمانية لم يسبق لها أن حققت هذا السلم على المستوى العالمي، إذ إن أول حربين عالميتين في تاريخ البشرية حدثتا بين بلدان غربية علمانية، ونتج عنهما من الضحايا البشرية والدمار والفساد ما لم يكن له مثيل في تاريخ البشرية.

إن كثيراً من الغربيين أنفسهم يرون أن العلمانية سبب أساس إن لم تكن السبب الأول لتلك الأمراض التي ذكرها “فوكوياما” في كتابه، وأن المجتمعات الصناعية كلها تعاني منها، والتي سرت عدواها إلى العالم كله بما فيه عالمنا الإسلامي بسبب إصرار بعضنا على التقليد الأعمى لكل ما هو غربي. عجباً لأمر الغربيين الذين يقولون إن ديننا هو سبب ضعفنا وتخلفنا، أفتراهم حريصين على أن نكون أقوياء؟ كيف وهم يَعُدُّوننا العدو الأول بعد سقوط الشيوعية؟ كيف وهم يرون أن الصدام بين الحضارات قادم لا محالة؟ أفيريدون لعدوهم أن يملك من القوة ما يملكون، ولذلك فهم ينصحونه أن يأخذ بأسبابها التي منها إقصاء الدين؟ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.

إننا نحن معشر المسلمين موقنون بأن الكتاب الذي بين أيدينا هو كلام ربنا عز وجل الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، نقرؤه بلغته التي أنزل بها، ولا نجد فيه رغم تطاول الزمن ما يخالف حقيقته من ملايين الحقائق العلمية التي اكتشفت بعد نزوله، بل إننا لنرى في كل يوم مصداق ما به أخبر، والحكمة في ما عنه نهى أو به أمر، فلماذا نترك حقنا لباطلهم؟

وقد صدق الإمام مالك رضي الله عنه حين عبر عن هذا الموقف بقوله: “أو كلما جاءنا رجل هو أجدل بحجته من الآخر، تركنا قول محمد صلى الله عليه وسلم، وتركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لقوله؟!” ومعنى كلامه رحمه الله: لو أن المسألة بالجدل والمراء والمنازعة، لكان كلما جاءنا رجل أجدل من الآخر، تركنا ما أنزل الله تعالى، وما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لكلامه، ثم يأتي من هو أجدل منه، فنترك أيضاً كلام من قبله لكلامه، وهكذا.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *