1-المرجعية الحديثية في النقد
ينسب أحمد عصيد للدكتور مصطفى بن حمزة قوله: “من يسمع أحاديث البخاري أو يقرأها، فكأنه يسمعها من الرسول مباشرة”؛ فيردّ على ذلك بقوله إنه “لا يصح من حيث المرجعية الفقهية الإسلامية”، مستشهدا باعتراضات الذهلي والدارقطني والنووي وابن حجر والباقلاني وأبي حامد الغزالي وابن حزم والسيوطي والبغدادي والألباني… الخ.
وفي هذا ينبَّه عصيد إلى ما يلي:
– فما نسبه لابن حمزة، أو ما فهمه من كلامه، لا ينطق به المبتدؤون في علم مصطلح الحديث. فليس في البخاري المرفوعات فقط، بل الموقوفات أيضا؛ وكله من الحديث لا من السنة. وتعامل أهل التخصص مع المرفوعات، يختلف عن تعاملهم مع الموقوفات. فالأولى صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءت بشروط الصحيح: “الاتصال، والسلامة من الشذوذ والعلة، وعدالة وضبط الرواة”. أما الثانية فيميز العلماء بين ما جاء منها في الغيبيات والتوقيفيات، وما جاء في غيرها. وهذا مما لن يغفله ابن حمزة وقد وعاه مبتدئة الحديث.
– ولا يُحمَل كلام الدكتور ابن حمزة على وجه التحقيق العلمي دائما، لأن السجال ليس بين العلماء، بل هو خطاب يوجهه الدكتور للعامة في شرط التداعي على السنة والبخاري؛ ولا يستقيم أن تتم مناظرة بين طرفين التفاوت بينهما كبير. ليس كلام ابن حمزة موجها للمتداعين على “البخاري”، بل لمن قد يفتن بهم. أما أولئك فلا تخصص أتقنوه، لا في علم الحديث (وعلوم الشريعة عموما)، ولا في علوم أخرى. وإلا فأين بحوثهم واجتهاداتهم فيما يدعون، أي في الاقتصاد والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا والتاريخ واللسانيات والفيلولوجيا وغيرها… فيم سيناظرهم ابن حمزة إذن؟
– أما الاعتراض على “البخاري” ونقد “البخاري” فلم يمنعه الفقهاء وعلماء الحديث، بل إن البخاري نفسه لا يقول به. ولكن، من له حق نقد الحديث؟ وما مسالك ردّه؟ في هذا يتكلم الدكتور ابن حمزة، فيقصد بكلامه من لا يتوفرون على شروط الاجتهاد في مسائل “الجرح والتعديل” و”نقد المتن”. هؤلاء ليسوا هم الدارقطني ولا ابن حجر ولا البغدادي ولا الألباني… الخ.
– ومن أتى بهم عصيد كحجة على ابن حمزة، قائلا إنهم عقبوا على البخاري ونقدوه؛ ليسوا سواء، بل منهم من بضاعته في الحديث أضعف من باعه في الأصول والمنطق والفقه والكلام (الإمام الغزالي)، وقد وجِد في كتبه ضعيف الحديث والتي لم يوجد لها أصل (في “الإحياء”).
بعد ذلك ينتقل عصيد للقول: “معظم أحاديث البخاري آحاد، ويعرف د. ابن حمزة أن الحديث الآحاد مشكوك فيه”. وهذا خطأ فادح في علم المصطلح، ليس صاحبه بأهل للرد على الدكتور ابن حمزة. فالأحاديث الآحاد، ومنها المشهور (مَروي ثلاثة) والعزيز (مروي اثنين) والغريب (مروي واحد)/ باصطلاح ابن حجر العسقلاني في “نخبة الفكر” لا البيقوني في “البيقونية”، (الأحاديث الآحاد) صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك تكون حجة لا في العبادات والمعاملات والأخلاق فحسب، بل في العقائد أيضا. فمن أين جاء عصيد بقوله: “مشكوك فيها”؟
ويسأل عصيد الدكتور ابن حمزة: “هل يعتبر البخاري شخصا من البشر أم من غير البشر؟”، ثم يقول: “فإذا كان البخاري من البشر فعمله بشري يحتمل الصواب والخطأ، ما يعني قابليته للنقد والتصويب”. ولا نظن أن ابن حمزة ينزع البشرية عن البخاري، فذلك ما لم يفعله حتى أشد المرتبطين بالأثر والحديث كالألباني مثلا. الاختلاف حول: “من هو مؤهل لنقد الحديث؟”. والذين تحدّهم المعايير المتداولة والمعتادة، أي ألا يقبل على نقد الحديث إلا أهل الحديث؛ أولئك يبحثون عن مبررات ومسوغات لعملهم خارج تلك المعايير. أما فقهاء الحديث، فيفحصون الحديث بمعاييره، ويرون في البخاري صاحب رواية ومعيار. فإما يفندون روايته، وإما معياره؛ وكله بمعيار وخاص بأهل الصنعة.
2-المرجعية الإنسانية والعقلانية في النقد
بالنسبة لعصيد، النقد الإنساني والعقلاني لـ”صحيح البخاري” ينتج عدة مقولات، من أبرزها:
– “الرواية الشفوية ليست حجة”
يقول عصيد: “في المعرفة الحديثة أصبحت الوثيقة المادية هي الحجة، لا الرواية الشفهية… في السوسيولوجيا أو الأنثروبولوجيا أو الأدب الشعبي نعتمد الرواية الشفوية، ولكننا لا نعتمدها على أساس أنها حقيقة بل تعكس عقلية معينة… بهذه الكيفية يمكننا أن ندرس “صحيح البخاري” كرواية تعكس عصره”. ولكن فلنسائل عصيد: عن أي دراسة يتحدث؟ هل عن دراسة تاريخية ترجع الأحاديث إلى أسباب ورودها بتفصيل، على مستوى الوقائع، أو على مستوى ما يعللها من “قواعد التاريخ وسننه”؟ أم عن دراسة أخرى يتبناها عصيد، ولا يصدق عليها معنى دراسة، بل هي مجرد “أحكام قيمة”، كلام عام، شرط “البخاري” بالنسبة إليها مجرد “قدامة”، وما “البخاري” في تفسيرها إلا “قدامة في الوعي والمعرفة” تعكس “قدامة في التاريخ”؟
وليكن في علم عصيد أن “الرواية الشفوية” شكل من الأشكال الأولى لـ”الشواهد التاريخية”، وهي أول شاهدة تناولها عبد الله العروي في “إسطوغرافيات مفهوم التاريخ”؛ إنها، فضلا عن اكتنازها بالمعرفة الدينية، فهي تستبطن تاريخ مرحلة ما يجب الكشف عنه. إن “حملة “العقلاني وغير العقلاني في البخاري”، “المقبول وغير المقبول فيه”، تحرم القراءة التاريخية أهميتها، وتستبدلها بقراءة مثالية مستمدة من التجربة الغربية في قراءة النصوص الدينية.
– “لا توجد نسخة أصلية لصحيح البخاري”
يزيد عصيد: “لا توجد نسخة أصلية مكتوبة بخط يد البخاري، ولا توجد نسخة لتلميذ له، أو تلميذ تلميذه”؛ وردّا على قول ابن حمزة إن “المغاربة أخذوا حديث البخاري عن ابن سعادة الأندلسي”، يحتج عصيد بأن “ابن سعادة عاش 300 سنة بعد وفاة البخاري”.
ثم يقول: “أمام ابن حمزة مشكل مزدوج: ليس له اتصال بالبخاري، وليس للبخاري اتصال بالرسول”.
في هذا المنطق الذي يدعي العلمية خروج عن خصوصية تميز الحضارة العربية، تولي هذه الخصوصية أهمية بالغة للرواية؛ فليس المحفوظ لديها ما حفظ سطرا فحسب، بل صدرا أيضا، ومن اطلع على “طرق التحمل والأداء” في الحديث يعلم ذلك. ومن مقتضيات ذات الخصوصية أن عدد من شواهدها التاريخية لم تكتشف بعد بفعل تخلف البحث التاريخي في الوطن العربي الإسلامي (وذلك من تخلف التصنيع بحسب العروي في “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”)؛ ما ليس موجودا اليوم قد يكتشف غدا، فلِم الاستعجال بإسقاط البخاري ب”ادعاء فقدان أصله دائما وأبدا، ماضيا وحاضرا ومستقبلا”؟ بهذا يكون عصيد ضد البحث وضد الاكتشاف، وضد ما ستسفر عنه الأبحاث التاريخية، وهي بحوث عن شواهد لم تكتشف بعد.
– “الارتباط الشعبي ليس دليلا على صحة البخاري”
يستشهد ابن حمزة بالعلاقة الوثيقة بين المغاربة، دولة وشعبا، ب”صحيح البخاري”؛ فيرد عليه عصيد: “الارتباط الشعبي والرسمي بالبخاري، من قبيل جيش البخاري وختم البخاري في بعض المناسبات الدينية، ليس دليلا على صحته”. ومن قال بأن الدكتور ابن حمزة يتكلم هنا عن الصحة؟ بل عن علاقة لا يجوز تجاهلها بين التاريخ والنص، بين الخصوصية المغربية و”صحيح البخاري”. يذكر الدكتور ابن حمزة بهذه العلاقة، ردّا على من يظن أن النقاش في الشريعة فحسب، بل في تماسك المجتمع واستقرار الدولة.
ولما لم تكن مرجعية عصيد في التفكير هي نفس مرجعية الدكتور ابن حمزة، فإنه يقول: “ما فعله جيش البخاري من فظاعات دموية لا تجعل منه مثالا”؛ بهذا ينتقل عصيد من نقد “البخاري” إلى نقد الأسس التاريخية لتعلق المغاربة به. وإذا كان التاريخ يقول بأن “جيش البخاري” هو أول جيش نظامي تعرفه الدولة المغربية، لا من حيث الجهاز (فئة خاصة بدل قبائل) ولا من حيث الإيديولوجيا (القسم على البخاري)؛ فإن لعصيد موقفا آخر، وهو موقف لا تاريخي يحاكم الجيوش النظامية بأهواء الأناسي، والدول برغبات الأفراد.
– “أحاديث غير منطقية ولا عقلانية في الصحيح”
يقول عصيد مجددا: “يتحدث ابن حمزة عن صرامة البخاري في نقل الأحاديث؛ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نجد فيها ما يخالف العقل والمنطق؟”. وإذا سألنا عصيد: عن أي مخالفة للعقل والمنطق تتحدث؟ يذكر بعض الأمثلة منها:
خبر في صحيح البخاري عن مكيدة أعدتها عائشة رضي الله عنها رفقة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بخصوص هذا الحديث، يتساءل عصيد: “فكيف نأخذ الحديث عن عائشة وهي تكذب بنص البخاري؟”. وهنا لا يميز عصيد بين “رواية الصحابي” و”رواية غيره”، ولا بين “تصرفه في الرواية” و”تصرفه في غيرها من مسائل حياته”. لو ميز لحسم موقفه من “عدالة عائشة رضي الله عنها كصحابية” أولا، قبل أن ينتقل إلى حسم موقفه من “حدود التماس بين بشريتها الخاصة (منها: غيرتها وخصامها مع الرسول صلى الله عليه وسلم) وبشريتها عند الرواية (منها: “خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء”.
وخبر ثان في ذات الصحيح، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من عبد قال: “لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق؟”. لا يشرح الحديث ولا يفهم إلا بآخر، أو بنص في القرآن؛ والجمع بين الأدلة كفيل بذلك. ولما لم يجد عصيد بين يديه بضاعة من هذا المنهج، أنكر على البخاري هذا الحديث بحجة أنه “من غير المقبول أن يسمح الدين بالزنى والسرقة”. ناهيك عن أن قراءة مثل هذه في الأحاديث، لا هي تستحضر أسباب ورود الحديث، ولا هي تقرأ تفاصيل السنة في سياق مقاصد الإسلام؛ وهنا نطرح على عصيد السؤال التالي: “هل يزني ويسرق من تحقق بحقيقة التوحيد؟”.
– “العلم وحقوق الإنسان.. المعيار المعاصر لقراءة البخاري”
بهذا الخصوص، يقول عصيد: “معايير اليوم في قراءة البخاري ليست هي معايير الأمس”؛ ويقترح لقراءة أحاديث الصحيح معيارين: “معيار العلم، معيار حقوق الإنسان”.
وما يغيب عن وعي عصيد أن المعرفة مركبة، وكل قراءة معرفية فهي مجرد قراءة يجب أن تحدد الزاوية التي تنظر منها إلى الموضوع المدروس. فبموجب العلم نفسه، ما يعتبره عصيد حجة على البخاري، قد يعتبره البعض حجة له. وقد رأينا نماذج لذلك.
أما حقوق الإنسان، فهناك فرق بين نموذجها المثالي، وهو لم يتحقق إلي اليوم في أي مكان من الأرض، وفي أي مرحلة من التاريخ؛ ونموذجها التاريخي الذي يسمح لكل دولة بتحديد خصوصيتها الحقوقية. ولا بد أن يحدد عصيد هنا مرجعيته في الحقوق، لأن المغاربة يرفضون أن يتخلوا عن “البخاري” بضغط من “مرجعية حقوقية عولمية غربية”.