رمضان والقرآن والتقوى

إن مما يلفت انتباه المتدبر في كتاب الله تعالى؛ أنه جعل صيام رمضان وتلاوة القرآن رافدان من روافد التقوى:

قال سبحانه: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة/1-2].
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة/183]
فالقرآن نزل لتحقيق التقوى، ولذلك شرع صيام رمضان.
ومن هنا جاءت النصوص مرغبة في العمل بالقرآن وناهية عن الاقتصار على تلاوته:
قال الله تعالى في ذمِّ أهل الكتاب: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة/78]
قال المفسرون: “{إِلا أَمَانِيَّ} أي: ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط” .
وقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة/5]
قال الحسن: “نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملا”.
وفي الحديث الصحيح: “القرآن حجة لك أو عليك”.
أي إذا عملت به كان حجة لك، وإلا كان عليك.
وما أجمل ما أورده المقريزي في مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي (ص:258):
“وقال عباس الحجري: قلت لشفي الأصبحي: أشكو إلى الله وإليك أني كنت أختم القرآن في كذا وكذا -يعني في أيام قليلة- ثم صرت لا أختمه إلا في كذا وكذا -يعني أكثر من ذلك-، فقال شفي: “اللهم غفرا؛ اعمل بما فيه، واقرأه في سنة”!
وبإزاء هذا نجد نصوصا توضح بأن الصيام الحقيقي هو الذي يورث صاحبه العمل الصالح والتقوى:
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه” [رواه البخاري].
وقول الزور: هو كل قول محرم كالكذب والغيبة والنميمة..
والعمل بالزور: هو كل عمل محرم كالغش وأخذ الرشوة والتبرج وإخراج الصلاة عن وقتها..
والجهل: هو الاعتداء على الآخرين بالسب والشتم وغيرهما.
قال العلامة ابن العربي رحمه الله: “مقتضى هذا الحديث أن من فَعَل ما ذُكِر لا يثاب على صومه”.
قلت: بل ذهب بعض العلماء إلى أن تعمد المعصية يُبطلُ الصومَ:
قال العلامة ابن حزم: “ويُبطل الصوم أيضا تعمدُ كل معصية -أي معصية كانت لا تُحاشِ شيئا- إذا فعلها عامدا ذاكرا لصومه” .
والتحقيق أن المعاصي سبب لحرمان الصائم من أن يثاب على صومه؛ فيصح الصوم وتبرأ الذمة، لكن لا يؤجر:
قال الإمام ابن تيمية: “الإجزاء والإثابة يجتمعان ويفترقان، فالإجزاء براءة الذمة من عهدة الأمر، وهو السلامة من ذم الرب أو عقابه. والثواب الجزاء على الطاعة. وليس الثواب من مقتضيات مجرد الامتثال بخلاف الإجزاء، فإن الأمر يقتضي إجزاء المأمور به، لكن هما مجتمعان في الشرع؛ إذ قد استقر فيه أن المطيع مثاب والعاصي معاقب، وقد يفترقان فيكون الفعل مجزئا لا ثواب فيه إذا قارنه من المعصية ما يقابل الثواب، كما قيل: «رب صائم حظه من صيامه العطش ورب قائم حظه من قيامه السهر» ، فإن قول الزور والعمل به في الصيام أوجب إثما يقابل ثواب الصوم، وقد اشتمل الصوم على الامتثال المأمور به والعمل المنهي عنه، فبرئت الذمة للامتثال، ووقع الحرمان للمعصية” .
وكفى بهذا زاجرا عن المعاصي.
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: “إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك” .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم” [رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما].
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر”. [رواه ابن ماجه واللفظ له والنسائي وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري]
وفي لفظ: “رب قائم حظه من القيام السهر ورب صائم حظه من الصيام الجوع والعطش”.
وبما تقدم ندرك خطأ الذين يجعلون تلاوة القرآن وصيام رمضان شعائر وهياكل مفرغة من المعاني، لا تقوم على تدبر ولا تورث عملا؛ يتمثل في الاستقامة على الطاعة واجتناب المعصية، وتلك حقيقة التقوى..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *