أعظم ما يتنافس فيه الناس وأجل ما يعرف به الأكياس الاعتناء بالقرآن الكريم الفارق بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، والشك واليقين، أنزله الله تعالى لنقرأه تدبرا، ونتأمله تبصرا، ونسعد به تذكرا ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه، ونصدق به ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه، ونجتني ثمار علومه النافعة الموصلة إلى الله سبحانه من أشجاره ورياحين الحكم من بين رياضه وأزهاره، فهو كتابه الدال عليه لمن أراد معرفته وطريقه الموصلة لسالكها إليه، ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات، ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب، وبابه الأعظم الذي منه الدخول فلا يغلق إذا غلقت الأبواب، وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء، والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء، والنزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء، كلما ازدادت البصائر فيه تأملا وتفكيرا زادها هداية وتبصيرا.
الحث على تعلم القرآن وتعاهده والتغني به
حث النبي صلى الله عليه وسلم على تعلمه، وحث عليه الصلاة والسلام على تعاهده والتغني به، ففي الحديث الصحيح من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: “تعلموا كتاب الله وتعاهدوه وتغنوا به، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من المخاض في العقل”.
وفي هذا الحديث من العلم:
أولا: الأمر بتعلم القرآن.
ثانيا: تأكيد ندب اللمواضبة على تلاوته خشية التفلت.
ثالثا: الحث على التغني به.
وقد بين عليه الصلاة والسلام فضل الحافظ لكتاب الله الماهر فيه، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها: “الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران”، وفي لفظ: “مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران”.
فهذا الحديث يبين فضل حفاظ القرآن الماهرين بتلاوته بأنهم مع الملائكة حملة القرآن كما قال تعالى: “كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ” وفيه تنبيه لحامل القرآن أن يتشبه في أحواله وأعماله بهؤلاء الملائكة إذ المدح لا يلحقه بمجرد الحفظ، حتى يكون كالكرام البررة في كرمهم وبرهم.
وبين عليه الصلاة والسلام كذلك منازل الحفاظ لكتاب الله في الآخرة ففي الحديث الصحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقال لصاحب القرآن: “اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها”.
اعتناء السلف بالقرآن
لأجل هذا الفضل وغيره كان سلف الأمة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على الاعتناء بكتاب الله جل وعلا حفظا وتعلما وعملا، فحري بمن بعدهم أن يسلك طريقتهم وأن يعرف عنهم كيف كانوا يأخذون هذا القرآن، فإنهم كانوا يغدون به في الليل والنهار، ويصبحهم النبي صلى الله عليه وسلم ويمسيهم بجديده.
ففي الأثر الصحيح الذي أخرجه ابن جرير رحمه الله في تفسيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يججاوزهن حتى يعلَم معانيهن والعمل يهن”.
وفي الأثر الصحيح كذلك الذي أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرؤنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون بالعشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل قالوا: فعلمنا العلم والعمل”.
هذا حال سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أما حال الكثير منا فيندى له الجبين، فنسأل الله المسامحة ونسأله العفو والعافية، فكثير منا إلا من رحمه الله جل وعلا اتخذ القرآن مهجورا، كما قال الله تبارك وتعالى: “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً”.
قال السعدي رحمه الله في تفسيره للآية: “(وَقَالَ الرَّسُولُ) مناديا لربه وشاكيا له إعراض قومه عما جاء به، ومتأسفا على ذلك منهم: (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي) الذي أرسلتني لهدايتهم وتبليغهم، (اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) أي: قد أعرضوا عنه وهجروه وتركوه مع أن الواجب عليهم الانقياد لحكمه والإقبال على أحكامه، والمشي خلفه” تيسير الكريم الرحمن.
وقال ابن القيم رحمه الله في الفوائد: “هجر القرآن أنواع:
أحدها هجر سماعه: والإيمان به والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به.
الثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه..
والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به.
وكل هذا داخل في قوله: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورا) وإن كان بعض الهجر أهون من بعض” اهـ.
أهل القرآن هم أهل الله وخاصته
إن القلب ليفرح، وإن الصدر لينشرح، عندما يرى شبانا وشيبا، صغارا وكبارا، همهم القرآن، وبغيتهم حفظ كتاب الرحمن، فالله الله في عونهم عليه، وفتح المجال لهم إليه، والحذر الحذر فهم أهل الله وخاصته لديه.
هؤلاء الثلة من الأخبار نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله، حري بالمرء المسلم أن يفخر وكيف لا؟
ففي الحديث الحسن من حديث أنس رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: “إن لله أهلين من الناس قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: هم أهل القرآن أهل الله وخاصته” اهـ.
قال ابن الأثير رحمه الله عند هذا الحديث في: “النهاية في غريب الحديث”: “أي حفظة القرآن العاملون به هم أولياء الله والمختصون به اختصاص أهل الإنسان به” اهـ.
وما أحلى أن يعرف الحامل لكتاب الله جل وعلا بقيام الليل وصيام النهار، فإنه نور على نور ويهدي الله لنوره من يشاء.
أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل..” اهـ.
هذه من بركات القرآن، وهذا هو كتاب ربنا الرحمن، إنه النور الذي يضيء ظلمة الطريق، والزاد للصلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة.
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً”.
وقال تعالى: “قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ”.
وقال تعالى: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ”.