..قال (بوفيس فانسون) رئيس تحرير مجلة “تشالنجر” وهي من الصحف الاقتصادية الغربية البارزة في مقال بعنوان “البابا أو القرآن”: “أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا، لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها، ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل الحال بنا إلى هذا الوضع المزري لأن النقود لا تلد النقود”.
إنني أتذكر تلك “المواقف” الجمة، التي استضعفت فيها الأخفاءُ الخطاب الديني وحاولوا بكل ما أوتوا من بيان الهذيان” أن يردوا كل آية أو حديث تارة لوجود الاختلاف، وتارة باسم المقاصد والأعراف.. حياء واتقاء.. وإلا فمجاهرتهم بالرد الصريح والرفض التام لمنطق الشريعة هو الأغلب الأعم.. ومن أسخف ما كانوا يشغبون به على الحق حين يحاصرهم، قولهم “لقد صعد الناس القمر”…
والأسخف من ذلك أنك مازلت ترى كثيرين يعلنون بالنفس نفسه الاغترار اللامتناهي بكل مستورد من الغرب.. مع أن الغرب يحاول تطويع نفسه لكثير من قضايانا العادلة لو أنه يجد فينا الكفاءة على تبنيها والدفاع عنها، حتى صار الأمر بيننا والغرب كما أخبر الله عن الإنس والجن في قوله تعالى: “وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا”… ولا شك أن من قصد الشراكة فلم يجد إلا الخدم لاستعبدهم، ولربما لو وجد نخوة الفكر لقبل السيادة لهم عليه.. وإنما هو سبق وتدافع.. وصور الاغترار العربي بالهلام الغربي.. تنوعت من أعلى شأن إلى أدناه.. فطالت الدين والدنيا معا..
وكأني بآيات من سور القصص تحمل هذا المشهد القائم المخزي الذي نقفه نحن المسلمين تجاه كل مستورد من الغرب، فانظر رحمك الله -بعين العلم والإنصاف- إلى قوله تعالى: “إن قارون كان من قوم موسى” إن الغرب ليسوا إلا بشرا من قوم كوكبنا وما هم إلا من ساكنة الأرض وطرف من الإنسانية.. “فبغى عليهم” لما رأى أنهم مكنوه من الاستخفاف بعقولهم واستضعاف نفوسهم، لقوة اقتصاده فماله وفير، ولمكان سؤدده فهو من ولاة فرعون، ناهيك عن سبق علمه بالتوراة.. فقد جمع المال والعلم والجاه.. وهل العدل والبغي إلا بها؟
وكذلك بغى الغرب علينا حين مكناه من نواصينا.. قال تعالى: “وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة” ولقد رأينا المسلمين على كثرة أعدادهم واتساع بقاعهم، لا يملكون تجاه معارف الغرب ومؤسسات نقده.. إلا التعجب والعد.. وانتظار المنح والأوضاع المتقدمة..
“إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين” غرور أنساهم إنما اكتشفوا على الخريطة من قريب، وأن نتانة العنصرية والجاهلية الأولى مازالت تفوح من أوراق تاريخ بؤسهم القصير…
“وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة” وهي دعوة للإيمان بدعوة الحق “ولا تنس نصيبك من الدنيا” دعوة للعيش الرغيد “وأحسن كما أحسن الله إليك” دعوة إلى الإقرار بالفضل لله وبذل الإحسان للإنسان.
“ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين” الذين يبثون رمضاء الحروب وأشباح الجوع وأصنام الإلحاد والشهوات.. لكن الغرور يسيطر على العبد في لحظة نزوة الثروات المتراكمة “قال إنما أوتيته على علم عندي” ولحظة لمح في الماضي السحيق وتاريخ الأمم تعطيه اليقين بقوله تعالى: “أََوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ”.
فما تنفعك قوة اقتصادك أو كثافة جنودك وحداثة أجهزة دفاعك الجوي والبري والبحري.. “وقد ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون”.
“فخرج على قومه في زينته” وما أكثر ما تخذع المظاهر استعراض عساكر ودراسة مشاريع وتنفيذ قوانين.. وتحقيق تقدم وتنمية، وأبراج وأوراش، وأسهم تلمع، وبورصات تجمع، وعملات صعبة توزع وتمنع.. زينة وأي زينة..
“قال الذين يريدون الحياة الدنيا” هؤلاء الذين حصروا النظر في الأوراش والأبراج، “يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون” وهذا التمني كاف في أن سواعد جدهم مبتورة، وبريق الغرب استهواهم خلف الأماني..
“إنه لذو حظ عظيم” والخطأ جسيم حينما توحد النجاح في أثر البذخ دون النظر لأصل تراكمه، وقاعدة الإسلام “أن الأثر والمؤثر قرينان للحكم بالنجاح” “ومن فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ” وقال الذين أوتوا العلم “بصيرة الحكم والحكمة” ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا” وما أخفاه من صوت رغم مجاهرتهم به، فإن لأجواء الشهوة صدودا عن سماع الهدى..”ولا يلقاه إلا الصابرون”.
“فخسفنا به” فكم زال ولاة..”وبداره الأرض” فتغيرت خرائط دول.
“فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين” فتنكره الأحباب وعاداه المقربون.. فلم تنفع سيولة ولا أثرت خطة إنقاذ.. واختلطت قيمة الترليون بصيغة الزيتون والأفيون والمغبون.. “وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون” والغريب أن أمنيتهم قبلُ لم تنصف أهل العلم.. ولا بنيت على استبصار.. وهؤلاء هم من يحدث الوهن والفتوق في كيان المجتمع..
فينادون بقيم ثم يعودون إلى نقيضها، ويلبسون اليوم لونا ولا يستنكفون من كثرة ألوان بعد.. “لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء” يقولون “ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا” وليس مَنُّ الله بالرزق هو سبب الخسف إنما تمني الثراء من الثرى والاغترار بالوراء من الورى!!؟
فهل في ذلك تذكرة للمستبصرين فيوقفوا هذا الاغترار ب”قارون أمريكا” الليبرالي ألم يخسف الله بفلسفة اقتصادهم في “مشكلة الكساد العظيم سنة 1929ـ1933” وخسف بهم أخرى في “أزمة تساقط البنوك” سنة 1985ـ 1992
وخسف آخر “لداوجونز بنسبة 22% في يوم واحد قدرت ب 500 مليار دولار سنة 1987 وغير ذلك من العواصف والقواصف.
“ويكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة” والدنيا لها تبع “نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين” الذين يقرون بضعف الخلق أمام الخالق، وحاجة المربوب لرحمات الرب..
لا يغترون بدعاوى التأمين على المخاطرة، ولا خطط استشراف المستقبل، صابرين على المنهج الحق الصريح، وتشريع الله الواضح الصحيح، حتى وإن خفيت حكمة الأمر والنهي وكثر الشغب من أولي النشوز والغي، آمرين بالمعروف نهائين عن المنكر قائمين لله بحقوقه في السراء والضراء، باذلين فيما آتهم من مال واستخلفهم فيه من رزق المعروف للمحتاجين غير شاحين ولا جشعين ولا مدينين ولا مرابين..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم”.
وأختم العبرة بقول (بوفيس فانسون) رئيس تحرير مجلة “تشالنجر” وهي من الصحف الاقتصادية الغربية البارزة في مقال بعنوان “البابا أو القرآن”: “أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا، لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها، ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل الحال بنا إلى هذا الوضع المزري لأن النقود لا تلد النقود”. [مجلة البيان عدد 255].