لا ينفك دعاة الحداثة يروجون للعلمانية على أنها فكر تقدمي استطاع أن يعلي من شأن العقل، ويحرر الإنسان من أغلال الميتافيزيقا، فالعقل هو المصدر لكل معرفة والشاهد على كل حقيقة، والغرب لم يستطع أن يبني حضارته إلا بعد أن قطع مع تراث الآباء، لذا مافتئ العلمانيون يُعيِّرون المسلمين بالرجعية والماضوية لأنهم يقولون بتطبيق ما جاء في القرآن الكريم وما دلت عليه السنة الصحيحة.
إلا أن المطلع على كتابات العلمانيين والحداثيين يجد أنهم يفرقون بين نوعين من الرجعية حيث يرجعون عبر التاريخ ناكصين على أعقابهم إلى أبعد من رجوع المسلمين بأكثر من عشرة قرون حيث يستشهدون بأقوال مات أصحابها قبل ولادة عيسى عليه السلام بمئات السنين أمثال: فيثاغورس، أرسطو، هيراقليطس، أفلاطون، فالرجعية الحداثية مقبولة مادامت لا تفضي إلى الإيمان بالغيب، وتكرس مبادئ العلمانية في إقصاء الدين والإيمان من تنظيم حياة الإنسان، في حين أن رجوع المسلمين إلى منهج سلفهم الصالح مرفوض كل الرفض لأنه يستند إلى مبدأ الإيمان بالله سبحانه والتصديق بالوحي والاعتقاد في الغيب.
فأغلب كتابات العلمانيين تنحصر في شرح ما قاله فلاسفة اليونان والإغريق، وتقليد المدرسة الأبيقورية وما تفرع عنها من فلسفات أوربا المادية المؤصلة للإلحاد، ولا يرضون على أحد من المسلمين إلا إذا كان يتبنى أصلا من أصولهم فهم يعتنون بتراث ابن عربي الصوفي لأنه أصل الزندقة الصوفية المؤسسة على فلسفات ملاحدة اليونان والهند، ويمجدون المعتزلة لأنهم يرتكزون في عقيدتهم على الفلسفة اليونانية، التي جعلتهم يقولون بخلق القرآن وتقديم العقل على النقل..فدعاة التقدم والعصرنة والحداثة ينهلون ثقافتهم من بِركة الفلسفة القديمة الآسنة ولو اتخذت أشكالا حديثة ولغة جديدة وصبغة إسلامية.
ولنضرب مثالا على هذا التلاقح الفكري بين دعاوى العلمانيين الرجعيين-التقدميين اليوم، ودعاوى القرون السابقة الجاهلية (الظلاميَّة)، فقد التقت العلمانيَّة مع أفكار الجاهلية الرجعية في أشياء كثيرة، ومثال ذلك:
ما قصه علينا القرآن عن أهل مدين قوم شعيب: ” قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ” فمن تأمل كلام هؤلاء الرافضين لوحي السماء المتشبثين باتباع أهوائهم والانصياع لشهواتهم سيتبين هذا التقاطع بين العلمانيين وأعداء الوحي الغابرين.
قال السعدي رحمه الله تعالى: “(قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)” أي: قالوا ذلك على وجه التهكم بنبيهم، والاستبعاد لإجابتهم له.
ومعنى كلامهم: أنه لا موجب لنهيك لنا، إلا أنك تصلي لله، وتتعبد له، أفإن كنت كذلك، أفيوجب لنا أن نترك ما يعبد آباؤنا، لقول ليس عليه دليل إلا أنه موافق لك، فكيف نتبعك، ونترك آباءنا الأقدمين أولي العقول والألباب؟!
وكذلك لا يوجب قولك لنا: (أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا) ما قلت لنا، من وفاء الكيل والميزان، وأداء الحقوق الواجبة فيها، بل لا نزال نفعل فيها ما شئنا، لأنها أموالنا، فليس لك فيها تصرف.
ولهذا قالوا في تهكمهم: (إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) أي: أئنك أنت الذي الحلم والوقار لك خلق، والرشد لك سجية، فلا يصدر عنك إلا رشد، ولا تأمر إلا برشد، ولا تنهى إلا عن غي، أي: ليس الأمر كذلك”. تيسير الكريم الرحمن
فهم لا يريدون أن يكون لصلواتهم وعباداتهم تأثير في مجرى السلوك الإنساني، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذا أمر بيِّن وهو من الوضوح بمكان؛ فمنطق العلمانيين اليوم هو منطق أسلافهم بالأمس، فلم تتغيَّر علمانية اليوم عن علمانية القرون المتقدمة!
فانظر إلى قول العلمانيين في مجلة نيشان وقارنه بما سلف: “على الدولة ومؤسساتها أن تحسم في مسألة الشأن الديني، أن تضع رفقة علماء دين منفتحين وفاعلين اجتماعيين وسياسيين، وإستراتيجية واضحة المعالم، تركز على جعل الدين عاملا روحيا وأمرا شخصيا، ولا يتدخل أبدا في تنظيم تفاصيل الحياة اليومية. أن يقتصر فقط على العبادة وتسهر على تصريف أموره مؤسسات واضحة التمويل والاختصاصات” نيشان العدد 174
وتأمل قول بعضهم متهكما على من يحرم الربا: “فسرقة أموال الناس باسم الربح حلال، لكن تحديد نسب الربح في الأبناك “ربا حرام” ولا بد من تعويضها بمعاملات بنكية “إسلامية حلال” هذه هي أسس الاقتصاد الإسلاموي الانتهازي”. الأحداث العدد 3264.
والله تعالى يقول: “وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا”، قال السعدي رحمه الله: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) أي: لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع (وَحَرَّمَ الرِّبَا) لما فيه من الظلم وسوء العاقبة” تيسير الكريم الرحمن.
ألا يدل هذا الترابط الفكري على ظلامية ورجعية الفكر العلماني الذي يزعم أنه فكر التقدم والحداثة؟!
فكيف يدعونا العلمانيون إلى فكر كان ولا يزال مصادما للوحي معاديا للأنبياء وما أخبروا به عن الله عز وجل؟
أفنترك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتبع ما قال أعداء الرسل في غابر الأزمان؟
ألا تشبه مادية العلمانيين هذه ودعوة الناس إلى الاهتمام بالحياة الدنيا ونبذ الإيمان بالميتافيزيقا ما قاله الملحدون للأنبياء عبر الأزمان: “وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ”. الأنعام.
ألا ينسجم اقتصارهم على تحصيل متعة الجسد مع ما قاله آخرون من أعداء الرسل: “إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ”. المؤمنون.
ألا يتطابق فكرهم مع قول فريق آخر ممن أنكر الغيب وتشبث بالدنيا: “إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ”. الدخان.
ألا تتماهى نتائج دراساتهم مع قول الفريق الرابع: “وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ”.الجاثية.
لكن المؤمنين يعلمون أن العلمانيين يكذبون “وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ”الجاثية.
ومن لم يصدق فليبحث في التصور العلماني للإنسان والكون والحياة عن مكان للغيب فلن يجد إلا الاستهزاء والسخرية.