الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذه رسالة مهمة، ألفها العالم الرباني السلطان أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إسماعيل، تضم مباحث عقدية سنية، وتوجيهات تربوية، لأهل الهمم الدنية، استقى مادتها من نصوص الكتاب والسنة، بأسلوب مبسط سلس، ولما كانت هذه الرسالة بكرا لم تقتطف ثمرها؛ عقدت العزم على الاعتناء بها ونشرها، معتمدا في ذلك على نسخة مخطوطة نفيسة، كتبت في حياة مؤلفها، والله الموفق.
1- شذرات من ترجمة المصنف :
• اسمه وولادته:
هو الإمام محمد بن عبد الله بن إسماعيل، المالكي مذهبا، الحنبلي اعتقادا ، أمير المؤمنين، سلطان المغرب الأقصى، ولد سنة 1134هـ بمدينة مكناس.
• صفته وأخلاقه:
كان -رحمه الله- أسمر اللون، تام القد، شعر لحيته عريض، واسع المنكبين، شديد الصفح، كريما جوادا، متواضعا شفيقا .
• محبته للعلم:
جبل على حب القراءة والمطالعة، وقد كان يشغل أوقات فراغه بمدارسة كتب الحديث والفقه والسير، قال ابن زيدان: “وجلب من المشرق ما لم يكن بالمغرب من مصنفات ذات البال، كمسند الإمام أحمد، ومسندي أبي حنيفة والشافعي، وغير ذلك من مهم المتون والشروح…، وكثيرا ما كان يقول: والله لقد ضيعنا أعمارنا في البطالة واللهو في حالة الشبيبة” .
• عقيدته:
كان مترجمنا حنبلي المعتقد كما تقدم، لا يرى الخوض في علم الكلام، ويثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من الصفات، من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تأويل، ولا تمثيل، قال الناصري في “الاستقصا”: “وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية، المحررة على مذهب الأشعرية -رضي الله عنهم-، وكان يحض الناس على مذهب السلف، من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل” .
• ثناء العلماء عليه:
قال عنه الحجوي: “عالم السلاطين، وسلطان العلماء في وقته، إمام جليل، وجهبذ نبيل، أحيا من العلم مآثره، وجدد الدولة العلوية بعد أن كانت داثرة” .
• من مؤلفاته:
– “بغية ذوي البصائر والألباب في الدرر المنتخبة من تأليف الإمام الحطاب” .
– “الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية التي تشفى بها القلوب الصدية” .
– “رسالة الاستقامة التي ليست بعدها كرامة ” .
• وفاته:
توفي ليلة الاثنين 26 رجب عام 1204هـ، وقيل يوم الأحد 24 رجب من السنة نفسها، والله تعالى أعلم .
2- وصف النسخة المعتمدة في التحقيق:
اعتمدت في ضبط هذا النص على نسخة خطية خاصة، تقع ضمن مجموع يضم مؤلفات السلطان سيدي محمد، وتقع هذه الرسالة في آخر المجموع، في أربع صفحات، في كل صفحة 17 سطرا، وفي كل سطر 10 كلمات تقريبا، خطها مغربي جميل، لم يصرح ناسخ المجموع باسمه، وقد انتهى من نسخ هذه الرسالة سنة: 1202هـ، أي: قبل وفاة مؤلفها بسنتين، فقال: “وهذه الرسالة قد سماها مؤلفها -رضي الله عنه وأرضاه-: “رسالة الاستقامة التي ليست بعدها كرامة”، وكان الفراغ منها في سابع رمضان المعظم من عام اثنين ومائتين وألف 1202هـ”.
3- نموذج من النسخة المخطوطة المعتمدة في التحقيق:
النص المحقق:
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
فإن من آمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويكون يؤمن بالقدر والكسب على حد السواء، ويفر من اعتقاد المجسمة والمعطلة ، فاعتقادهم كله خطأ.
والمنهاج المستقيم أن تؤمن بذات الله تبارك وتعالى وصفاته كما هي مذكورة في كتابه العظيم، من غير تكييف ولا تعطيل، فذاته تبارك وتعالى لا تشبه الذوات، وصفاته عز وجل لا تشبه الصفات، وكل ما يخطر ببالك فالله العظيم مخالف لذلك، قال الله تعالى: “قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد” ، وقال تعالى: “الم، ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب ويقومون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ” .
وقال تعالى: “الله لا إله إلا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السماوات وما في الأرض، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يؤوده حفظهما، وهو العلي العظيم” .
وقال تعالى: “ولا يحيطون به علما ” ، وقال تعالى: “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” ، وقال تعالى: “الرحمن على العرش استوى” ، أي: على الكيفية التي لا يعلمها إلا هو، لا إله إلا هو، وعقيدة الإمام ابن أبي زيد التي في أول رسالته كافية له وأحسن.
وقرأ من كلام الله تعالى ما تيسر عليه لتكمل به صلاته، لا أقل من حزب “سبح”، فإن لم يستطعه فربع “والعاديات” فيه كفاية له، وصلى خمسه، وزكى ماله، وصام شهره، وحج بيت الله الحرام إن استطاعه.
والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأطاع الله ورسوله، وأطاع أميره، ولزم جماعته، ونصح أمراء المسلمين، وعامتهم، وخاصتهم /2/، وجاهد في سبيل الله عدوه، وغض بصره، وكف لسانه، وأحصن فرجه، وحفظ بطنه، وبذل في سبيل الله درهمه وديناره.
وأدى أمانته، ووفى عهده، وصدق لهجته، وكان قوته وقوت عياله من تكسبه، لئلا تكون عليه منة غيره، ولم يحسد أحدا على رزق ساقه الله إليه، ولم يبت منطويا على غش له، واتقى شبهته، وزهد في دنياه، ورغب في أخراه، وكان لسانه رطبا بذكر الله تعالى والصلاة على رسوله، وأكثر من الاستغفار، لأنه يمحق الذنوب والأوزار، وأحب الأخيار وجالسهم، وأبغض الأشرار وأبعدهم، واشتغل بما يعنيه، وترك ما يعنيه .
قال تعالى: “وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا” ، وإياك أن يكون اتكالك على مخلوق مثلك، فيكلك الله إليه فتهلك، وليكن اتكالك كله، وعملك مخلصا لله ورسوله، قال تعالى: “وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين” ، وقال تعالى: “ومن يتوكل على الله فهو حسبه” ، وقال تعالى: “وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا راد لفضله” ، وقال تعالى: “ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله، إن الله عزيز حكيم” ، كما قال سيدنا إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار لسيدنا جبريل عليه السلام لما أتاه فقال له: “ألك حاجة”؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلا الله فبلى، قال: سله إياها؟ قال: “علمه بحالي يغنيه عن سؤالي” .
هذا غاية التوكل، ويكون يحب في الله، ويبغض في الله، ويحب من الخير لجميع المؤمنين ما يحب لنفسه، ويكون يقول في دعائه: “اللهم وفقنا وجميع أمة سيدنا محمد لعمل يرضاه لنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب”.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، فعلى ما ذكرنا كان السلف الصالح، أعاشنا الله وأماتنا على هديهم ومحبتهم، آمين .