الظاهر أن الخطة الرامية إلى محو الخصوصية في سبيل تعميم الثقافة الكونية الجديدة اتخذت طرقا ووسائل جديدة مختلفة عما عرفناه في الماضي، وذلك بإلزام كافة دول العالم بقبول اتفاقيات حقوق الإنسان ورفع كافة التحفظات اتجاهها، وحين نقول كافة الدول نقصد طبعا الدول المسلمة المستضعفة، أما الأقوياء فهم خارج هذا المجال، فأمريكا لها تحفظات على تلك الاتفاقيات، والكيان الصهيوني له تحفظات كذلك، فمن يلزمهما؟
وللتمكين للمشروع الكوني داخل المجتمع المغربي “المحافظ”، ولنسف مقومات خصوصيتِه، استبصر دعاة الكونية بنصيحة المستشرق “شاتليه” القائل: “إذا أردتم أن تغزوا الإسلام، وتخضدوا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة لها، والتي كانت السبب الأول والرئيسي لاعتزاز المسلمين وشموخهم، وسبب سيادتهم وغزوهم للعالم، عليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المُسلم والأمة الإسلامية، بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتكم وتاريخكم، ونشر روح الإباحية وتوفير عوامل الهدم المعنوي، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء لكفانا ذلك، لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها” اهـ. (الغارة على العالم الإسلامي).
فـ”شاتليه” حين حدد –بحقد دفين- الأهداف التي يجب التركيز عليها أكد أن الشجرة يجب أن يتسبب في قطعها أحد أغصانها، بمعنى أنه يجب أن يخرج من هذه الشجرة من يعيد تشكيل مكوناتها، فذلك أيسر وأهون على النفوس أن تتقبله، وهذا ما سعى له الغربيون بتجنيد دعاة مخلصين من المغاربة أنفسهم، يبيعون كل شيء إرضاءً لسادتهم، ويعملون جاهدين على كافة المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، وعن طريق المنابر الإعلامية على محو ذاكرة الأمة وارتباطها بتاريخها المجيد الذي هو خميرة المستقبل، وتمجيد كل ما هو غربي، وتحقير كل ما هو إسلامي أو شرعي، ومزاحمة رموز الإسلام برموز ضلالات التنوير والحداثة والعصرانية، وزرع الصراعات الفكرية التي تشوش الأفكار، وتشتت الأذهان عن طريق بعث الفلسفات المضادة للتوحيد، وإحياء التصوف الفلسفي، ونشر تراث الفرق الضالة كالباطنية والمعتزلة والرافضة، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة المطهرة والسيرة النبوية الشريفة، وهز الثقة في السلف الصالح، والتركيز على عرض ما يناقض التوحيد بصورة تغري للإلحاد، كنظريات “داروين” و”فرويد” و”دوركاييم”..، وإحياء تاريخ الأمم الوثنية لا “لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ”، ولكن لننبهر ونفخر بسبيل المجرمين.
وعرض أنماط الحياة الاجتماعية في الغرب بكل مباذلها وسوءاتها بصورة جذابة ومغرية، وإغراق السوق بالجرائد والمجلات وإذاعات المجون والعري والتهتك.
وتسميم الآبار المعرفية التي تستقي منها الأجيال معلوماتها المعرفية في محاولة مسخ للهوية والخصوصية عن طريق تخريب مناهج التعليم بكافة مراحله، وهذه أخطر مؤامرة ضد الهوية في الوقت الراهن، ويسميها دعاة الكونية بـ: (تجفيف منابع الإسلام)!! وهي مؤامرة لم تبدأ اليوم، ولكن منذ أكثر من قرن، ولا تبدأ من الصفر، ولكن تُستمد من معين المنطلقات التي صنعها الاحتلال والاستشراق والتنصير.
قال المستشرق “جب”: “والسبيل الحقيق للحكم على مدى التغريب هو أن نتبيَّن إلى أي حدًّ يجري التعليم على الأسلوب الغربي، وعلى المبادئ الغربية، وعلى التفكير الغربي.. هذا هو السبيل الوحيد ولا سبيل غيره، وقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي، ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين، وقليل من الزعماء الدينيين” اهـ.
إن التعليم الغربي اللاديني هو الحامض الذي يذيب شخصية المسلم، إنه ليس من المعقول ولا من الجائز أن يستورد بلد له خصوصيته وتاريخه وماضيه الحافل ومحيطه الخاص نظاماً تعليمياً من الخارج، ولا أن يكل وظيفة التعليم والتربية وتنشئة الأجيال وصياغة العقول إلى أناس لا يؤمنون بهذه الأسس والقواعد، ولا يتحمسون لنشرها والذبَّ عنها.
إن المس بخصوصية الوطن وتشويه هويته أو إضعافها عمل إجرامي تآمري يرقى إلى مستوى الخيانة العظمى للبلاد، كيف لا وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم “من غير منار الأرض” (رواه مسلم)، فكيف بمن يُغَير هوية أمة ويُضلها عن طريق النجاة؟ (انظر هويتنا أو الهاوية للدكتور إسماعيل المقدم).