فرق العلماء بين قولهم في مسألة محدثة هذه بدعة، والحكم على صاحبها المتلبس بها أنه مُبتَدِع، إذ الحكم على العمل الحادث أنه بدعة إنما هو حكم جار على وفق القواعد العلمية والضوابط الأصولية، التي يصدر عن دراستها وتطبيقها ذلك الحكم بوضوح وبيان، وهذا بناء على حفظ مقاصد الشريعة وأحكامها.
أما صاحب هذه البدعة فقد يكون مجتهدا، فمثل هذا الاجتهاد -ولو أنه خطأ- فإنه يدرأ عنه الوصف بالابتداع، وقد يكون جاهلا، فينفى عنه -لجهله- الوصف بسمة الابتداع، مع ترتيب الإثم عليه، لتقصيره في طلب العلم.
وقد تكون ثمة موانع أخرى من الحكم على مواقع البدعة بالابتداع، وهذا من باب العدل في الحكم على الناس.
أما من أصر على بدعته بعد ظهور الحق له، اتباعا للآباء والأجداد، وجريا وراء المألوف والمعتاد، فمثل هذا يليق به تماما الوصف بالابتداع، لإعراضه وتنكره وابتداعه وتمحُّلِه.
فيجب التفريق بين العامي من أهل البدع الذي تلقى البدعة ممن نظَّرها له وسكَبها في رأسه وجعل لها مكانًا في عقله، وبين ذاك المُجادل عن البدعة والداعي إليها بشبهاته وتقريراته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى 13/125: “لم يقل أحد من السلف والصحابة والتابعين أن المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم، لا في الأصول ولا في الفروع”.
وقال الغزالي رحمه الله في الإحياء: “المبتدع العامي الذي لا يقدر على الدعوة ولا يخاف الاقتداء به، أمره أهون، فالأولى أن لا يقابل بالتغليظ والإهانة، بل يتلطف به في النصح، فإن قلوب العوام سريعة التقلب”.
وقال رحمه الله: “المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده باللطف في أسرع زمان”…
وقال الشاطبي رحمه الله تعالى في الاعتصام 1/146-164: “لا يخلو المنتسب إلى البدعة من أن يكون مجتهدا فيها أو مقلدا، والمقلد إما مقلد مع الإقرار بالدليل الذي زعمه المجتهد دليلا والأخذ فيه بالنظر، وإما مقلد فيه من غير نظر كالعامي الصرف”.
قال شيخ الإسلام في الاقتضاء 1/268: “نعم قد يكون متأولا في هذا الشرع فيغفر له لأجل تأويله إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفى فيه عن المخطئ، ويثاب أيضا على اجتهاده، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك، كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولا أو عملا قد علم الصواب في خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجورا أو معذورا”.
وخلاصة القول في هذه المسألة المهمة أنه “لا يدخل في البدعة ما يفتي به البالغ درجة الاجتهاد وإن خالف الجمهور، وإنما هو رأي مرجوح، وآخر راجح، إلا أن تكون الفتوى مخالفة للنص الجلي من القرآن أو السنة أو القواعد القاطعة أو الإجماع، فإن الفتوى تكون حينئذ زلة لا يصح البقاء عليها أو المتابعة فيها.
والشاهد على ما نقول من أن الأعمال التي تسند إلى آراء اجتهادية -ولو كانت مرجوحة- لا تسمى بدعة: أن الأئمة المجتهدين يرون أقوال مخالفيهم بالنسبة إلى أقوالهم مرجوحة، ولا ينسبوهم إلى الضلال، ولا ينكرون على من يقتدي بهم في المذهب.
وإجماعهم على أن حكم الحاكم يرفع الخلاف: شاهدٌ على أن المجتهد لا يرى أن العمل بقول مخالفه بدعة، ولو كان في نظره بدعة لما أفتى بإقراره وهو يعد كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار” رسائل الإصلاح 2/171.
وبهذا البيان ينجلي إشكال يرد على كثير من الأذهان، وهو ظن كثير من القاصرين أنه إذا حكمنا على مسألة ما بأنها بدعة، فيلزم ذلك -عندهم- أن صاحب المذهب الأصلي القائل بها -وهو مجتهد- مبتدع أيضا!
فهذا مبحث يحُلَّ فهمُه والوقوفُ عليه كثيرا من الشبهات الطارئة على دعاة السنة من المخالفين لها، الذين يصِمونَهم بتبديع الأئمة وتضليل صفوة الأمة! (علم أصول البدع 203-210).
والصواب الذي لا محيد عنه ولا ملجأ إلا إليه، أنه ليس كل من وقع في البدعة وقعت البدعة عليه، إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع.