من المناسب ونحن نتحدث في موضوع (السلفية والسياسة) أن نعرج على موضوع العلاقة بين السلفية والدولة، لما يكتنف هذا الموضوع من الغموض والتعمية؛ وذلك أن كثيرا من الكتاب والسياسيين يختزلون العلاقة بين الدولة والسلفية في توظيف الأولى للثانية في ضرب بعض الجماعات الإسلامية، سيما: العدل والإحسان ..
وفي هذا السياق يذهب الباحث عبد الحكيم أبو اللوز بعيدا حين يقول: “الجمعية تؤسس وجودها على خلفية محاربة هذه الجماعات، وتعتبرها امتدادا للفرق التي عرفها التاريخ الإسلامي، إن لم تكن أشد خطرا” (1).
ولا يخفى ما في هذا الكلام من التهويل والمبالغة، بل الكذب الصريح (2).
ثم ظهرت كتابات تتبنى نظرية (السلفية تنتج الإرهاب)، حاول أصحابها تحميل السلفية المسؤولية المعنوية عن أحداث العنف التي عرفتها البلاد(3) ، وقريب من هذا موقف غلاة العلمانية الذين يوهمون بأن السلفية هي عدو الدولة لأنها عدو المشروع الحداثي للمغرب المعاصر، وأن هذه العداوة تمثل إرهابا لا يقل خطورة عن إرهاب القتل والتفجير.
وفيما يلي وقفات تحليلية في بيان خطأ هذا الطرح بمستوياته الثلاثة:
دلالات من تاريخ المغرب:
يعتبر السلطان سيدي محمد بن عبد الله (ت 1204 هـ) الرائد الأول للإصلاح في القرون الأخيرة من تاريخ الدولة المغربية، التي تلبدت سماؤها بغيوم الجهل والخرافة والبدعة، فجَرَّت البلاد والعباد إلى أوحال التخلف والانحطاط، وقد بنى السلطان محمد الثالث سياسته الإصلاحية على مرتكزات منها الشمولية؛ حيث كان يسعى لتطوير جميع المجالات التنموية -آنذاك- من تعليم واقتصاد وغيرهما، كما شيد صرح الإصلاح الديني على المبادئ السلفية المحضة، ويمكن إجمال أدلة ذلك في المحورين التاليين:
أ- تبنيه العقيدة السلفية ونبذ العقيدة الكلامية التي اعتمدها متأخرو الأشاعرة:
يبينه قول الناصري في الاستقصا(4): “وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية، وكان يحض الناس على مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل، وكان يقول عن نفسه حسبما صرح به في آخر كتابه الموضوع في الأحاديث المخرجة من الأئمة الأربعة: أنه مالكي مذهبا حنبلي اعتقادا، يعني أنه لا يرى الخوض في علم الكلام على طريقة المتأخرين، وله في ذلك أخبار..”.
ب- نبذ الجمود الفقهي والتعصب المذهبي والحث على بناء المسائل على الدلائل:
قال الناصري: “ومن عجيب سيرته رحمه الله أنه كان يرى اشتغال طلبة العلم بقراءة المختصرات في فن الفقه وغيره، وإعراضهم عن الأمهات المبسوطة الواضحة تضييع للأعمار في غير طائل، وكان ينهى عن ذلك غاية، ولا يترك من يقرأ مختصر خليل ومختصر ابن عرفة وأمثالهما، … وإنما كان يحض على كتاب الرسالة والتهذيب وأمثالهما، حتى وضع في ذلك كتابا مبسوطا أعانه عليه أبو عبد الله الغربي وأبو عبد الله المير وغيرهما من أهل مجلسه”.
قال صاحب الاستقصا: “إنا نقول: الرأي ما رأى السلطان سيدي محمد رحمه الله، وقد نص جماعة من أكابر الأعلام النقاد مثل الإمام الحافظ أبي بكر بن العربي، والشيخ النظار أبي إسحاق الشاطبي، والعلامة الواعية أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون وغيرهم، أن سبب نضوب ماء العلم في الإسلام ونقصان ملكة أهله فيه؛ إكباب الناس على تعاطي المختصرات الصعبة الفهم، وإعراضهم عن كتب الأقدمين المبسوطة المعاني، والواضحة الأدلة، التي تحصل لمطالعها الملكة في أقرب مدة”اهـ(5).
قلت: وقد اصطدمت هذه الدعوة التنويرية بصخرة الجمود الفقهي الذي ران على قلوب متعصبة مقلدة المذهب، الذين واجهوا سياسته الإصلاحية بقولهم: (نحن خليليون إن ضل ضللنا وإن اهتدى اهتدينا)!
وقد كان هذا الموقف وأمثاله من أهم أسباب ترسب مظاهر التخلف والانحطاط في واقع الدولة، والذي جعلها لقمة سائغة للمشروع الاستعماري.
قال الحجوي الثعالبي: “ولو عملوا برأيه لارتقى علم الدين إلى أوج الكمال”(6).
والمطلع على تاريخ المغرب يعلم أن هذا السلطان لم يزد في عمله الإصلاحي على تجديد الإسلام والدعوة إليه كما عرفه المغاربة على يد السلف الصالح، ونفض الغبار الذي تراكم عليه متمثلا في الأفكار والمناهج والممارسات الدخيلة، وهذا هو الأساس الذي تقوم عليه الدعوة السلفية قديما وحديثا.
المولى سليمان ومواصلة الإصلاح:
ثم واصل سياسته الإصلاحية ولده المولى سليمان الذي عرفت الدولة في عهده ازدهارا دينيا واقتصاديا وسياسيا لا نظير له عند من مضى من أسلافه، وقد طالت مدة حكمه من 1206ﻫ /1792م إلى 1238ﻫ /1822م.
قال الناصري: “صارت أيام السلطان المولى سليمان مثلا في ألسنة العامة.. فكل يثني عليها بملء فيه، ويذهب في إطرائها كل مذهب، لولا ما كدر آخرها من فتنة البربر التي جرت معها فتنا أخر”( 7)
ومواقفه في تبني السلفية أشهر وأوضح، وقد عرفها ودعا إليها قبل اطلاعه على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما أثبته في كتاب [السلفية في المغرب] وهذا يبطل ادعاءات من ينبز الدعوة السلفية بالوهابية، ويزعم أنها دعوة بدعية دخيلة على المغاربة؛ من أمثال سعيد لكحل الذي قال: ” التيار الوهابي دخيل على المجتمع المغربي ومهدد لأمنه الروحي”!
قال عبد الله كنون (الرئيس الأسبق لرابطة العلماء): ” يقال اليوم في كل من كان سلفي العقيدة: إنه وهابي تنكيتا عليه وتنفيرا من مذهبه”(8 ).
وهكذا لم يزل الحبل متصلا بين الدولة والسلفية طيلة هذه القرون الثلاثة الأخيرة؛ وفي طريق إثبات هذه الحقيقة معالم بارزة؛ منها:
العلاقة الوطيدة بين المولى عبد الحفيظ والعلامة السلفي أبي شعيب الدكالي:
وهو ما يدل عليه قول عبد الله الجراري: “وحظي (العلامة بوشعيب الدكالي) بالتجلة والإكرام عند السلطان المرحوم المولى عبد الحفيظ، وقد حصل له من الشفوف والحظوة لديه ما عز نظيره”(9).
قال: “وسلفيته الصالحة المشبعة بأفكاره التحررية، وآرائه المنطقية التي كونت منه رجل المقاومة لكل ما يمت بسبب إلى الشعوذة والشعبذة، وما كان يبدو من بعض الطوائف من غلو وانحراف عن الجادة، مما قد يبرأ منه الشيخ المنتسب إليه، ذلك وأكثر ما حفز الاستعمار الغاشم لعزله عن الوظيفة كانتقام من حريته المطبوعة، ورغم ذلك فما زاده العزل إلا تفرغا لأداء الرسالة التي تحملها منذ شبابه الأول، فكان من فينة لأخرى ينتقل من بلد لآخر، ومن مدينة لقرية يبث الوعي واليقظة، وينشر السلفية الداعية إلى التحرر والانعتاق من بوائق التقليد الأعمى، ورواسب التحجر والجمود اللذين بليت بدائهما الفتان فترات وفترات، عشنا لحظات مريرة من مساوئها حتى كان بعض علمائنا رحمهم الله كعُمْي لا تكاد تتفتح عيونهم على آي الكتاب وبيان السنة، ولا عجب وقد حالت بينهم وبين الأصلين خرافات وأفكار ودعوات مغرضة أن لا ينظر فيهما بمنظار البحث والكشف عن أسرار من شأنها البعث على التنوير والتحرر من ربقة الجهل والضيق…” (10).
وقال الرحالي الفاروقي: “فقد كان هذا الشيخ رحمه الله من الرعيل الأول في المغرب الذين أخذوا على أنفسهم إحياء العقيدة السلفية وبعث الروح الإسلامية الصحيحة في النفوس باعتماد وحي الكتاب العزيز ووحي سنة الذي لا ينطق عن الهوى، ونبذ ما سوى ذلك من الأقوال الموهومة والعقائد المشبوهة والخرافات المدسوسة التي أخرت سير المسلمين وشوهت سمعة الإسلام… وكان ينادي في كثير من دروسه باعتبار المعرفة الصحيحة أساسا للحضارة الإسلامية”(11 ).
قلت: وكان الدكالي قد تولى القضاء ووزارة العدلية والمعارف ورئاسة الاستئناف الشرعي.
يقول عبد الله الجراري: “ومما يسجل له بمداد الفخر: إحرازه على الرئاسة العلمية في الدروس السلطانية بالقصر العامر أيام المولى عبد الحفيظ، وصنوه المقدس المولى يوسف، والعاهل سيدي محمد الخامس قدس الله روحه، والذي كان يجله ويحترمه لحد أن شرفه طيب الله ثراه بعيادته في مرضه، وما فتئ يسأل عن صحته بين الفينة والفينة، كما أنعم عليه بوسامه العلوي من درجة ضابط كبير”(12).
ولما توفي الدكالي “شيعت جنازته في موكب رهيب حضره العلماء والأشراف والوزراء والكتاب وسائر الطبقات”( 13)
وللحديث بقية …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مونوغرافيا جول الحركات السلفية الجديدة بالمغرب / مجلة وجهة نظر/عدد 39 / ص.30.
[2] الرد على المخطئ تقويم للاعوجاج وتصحيح للمسار، وهو عمل إيجابي إذا انضبط بالأحكام الشرعية والآداب المرعية، ولا يضر بعد ذلك كونه وافق توجها سياسيا للدولة، بل العيب هو النفاق والمداهنة اللذان يؤديان إلى تغييب الحق، وانقلاب المعروف منكرا والمنكر معروفا.
[3] وأبو اللوز ممن تبنوا هذه النظرية، وزعموا أن الانتقال من (السلفية العلمية) إلى (السلفية الجهادية) سهل وميسور! انظر: السلفية التقليدية والجهادية، أية علاقة؟ / دفاتر وجهة نظر/ ع 15 / ص. 120، و يومية الصباح؛ العدد (2533)، (ص. 4).
([4]) (8/68).
([5]) الاستقصا (8/67)
([6]) الفكر السامي (2/293 -294).
([7]) الاستقصا.
([8]) النبوغ المغربي (ص. 125).
([9]) المحدث الحافظ (ص: 9- 10)
([10]) المحدث الحافظ (ص 82)
([11) شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي في رحاب مدينة مراكش الفيحاء لمحمد رياض (ص 51- 52)
([12]) المحدث الحافظ أبو شعيب الدكالي (ص.10).
([13]) المحدث الحافظ أبو شعيب الدكالي (ص. 12).