لا تزال وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) تمارس تعتيمًا إعلاميًا فيما يتعلق بأعداد قتلاها في العراق وأفغانستان؛ حيث أعلنت الوزارة في إحصائيات حديثة لها أن عدد القتلى من الجنود الأمريكيين في العراق بلغ ما يقرب من 5000 بينما وصل عدد المصابين إلى نحو 31 ألفًا و285 مصابًا، وأن عدد القتلى في صفوف الجيش الأمريكي في أفغانستان -وفقًا للإحصائيات نفسها- بلغ نحو 682 قتيلاً بالإضافة إلى ألفين و843 جريحًا تقريبًا. إلا أن هذه التقديرات التي يتم الإعلان عنها ليست هي الحقيقة الكاملة فيما يتعلق بالخسائر البشرية التي يتكبدها الاحتلال في حربي العراق وأفغانستان.
وكشف البروفيسور “ستيفين سكونر” في مقال له تحت عنوان “فلنتذكرهم أيضًا” والذي جاء بمناسبة احتفال يوم الذكرى -وهو يوم عطلة فدرالية في الولايات المتحدة الأمريكية يُحتفل به في آخر يوم اثنين من شهر مايو لتكريم الجنود الأمريكيين الذين قتلوا في ساحات المعارك- أن هناك خسائر بشرية فادحة أخرى لا تعلنها السلطات الرسمية بل يتم تجاهلها عن عمد؛ وخاصة أنها تقع في صفوف فئة لا تحظى بكبير اهتمام بين جمهور الشعب الأمريكي، وهي فئة “المقاولين” أو المتعاقدين المدنيين.
وينظر الشعب الأمريكي إلى المتعاقدين العاملين مع الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان على أنهم أشخاص جياع إلى المال ومنتفعين ومرتزقة ولا يحظون بنفس التقدير والاحترام الذي يُنظر به إلى العاملين بالخدمة العسكرية.
ويلقي “سكونر” في السطور التالية بالضوء على حجم الخسائر في الأرواح التي تمنى به هذه الفئة في العراق وأفغانستان، وكيف يتم إسقاط حالات الوفيات بين صفوفهم من إحصائيات البنتاجون الرسمية التي لا تُظهر العدد الإجمالي الحقيقي للقتلى الأمريكيين في الحرب. ويقول “سكونر”:
بالرغم مما سيلقيه “يوم الذكرى” على إجمالي عدد القتلى الأمريكيين في العراق وأفغانستان، فإن عليك ألا تتوقع تقديرًا دقيقًا للتكلفة البشرية الحقيقية لعملياتنا العسكرية بالخارج. إن أعداد القتلى التي سيعلن عنها –والتي ستكون على الأرجح أقل قليلاً من 5000 حالة- لن تقدم لك الحقيقة كاملة.
وبالنظر إلى أحدث التقديرات الموثوقة المتاحة علنيًا والتي ظهرت في يونيو 2008، فإن أكثر من 1350 متعاقدًا مدنيًا قد لقوا مصرعهم في العراق وأفغانستان بينما يدعمون عملياتنا هناك، كما أصيب نحو 29.000 مقاولٍ آخر من بينهم 8300 شخص إصاباتهم حرجة.
وحول نظرة المجتمع الأمريكي لعمل المتعاقدين في العراق وأفغانستان قال الكاتب:
لا تتوقع من الرئيس أوباما أن يتذكر أو أن يوجه الشكر لهؤلاء الأفراد من المتعاقدين (المقاولين) المدنيين الذين لقوا حتفهم بينما كانوا يقدمون الدعم لجنودنا أو لبعثاتنا الدبلوماسية. بل توقع بدلاً من ذلك أن يظل تصوير المتعاقدين العاملين بالعراق وأفغانستان على أنهم منتفعين قابلين للاستهلاك، أو على أنهم أشخاص باحثين عن المغامرة أو أفراد على هامش المجتمع لا يحق لهم نفس القدر من الاحترام والتقدير الذي يُقدم لأفراد الجيش.
وأوضح الكاتب أن العديد من المتعاقدين الذين وصفهم بـ “الضحايا” هم من العراقيين ومن الرعايا الأجانب الذين يعملون في إطار تعاقدات مع الحكومة الأمريكية، مضيفًا: “سواءً كانوا مواطنين أمريكيين أم لا، فإن الحقيقة الجوهرية تظل هي أنه: لو لم يكن جيشنا يعتمد على نحو كبير على المتعاقدين، فإن هذه الخسائر البشرية ربما كانت ستصبح من نصيب أفراد الخدمة العسكرية”.
وأكد البروفيسور “سكونر” على أهمية وجود إحصاء أمين ودقيق لأعداد المتعاقدين المتعاملين مع الجيش الأمريكي نظرًا لكون الشعب -والكونجرس أيضًا في هذه الحالة- غير مستوعب لمستوى اعتماد الجيش على المتعاقدين في مناطق القتال، ولا مدى الخسائر التي تلحق بصفوفهم. فالجيش الأمريكي الحالي الذي يعتمد بشكل كبير على مصادر خارجية لا يمكنه أن يخوض القتال بفاعلية أو يدعم نفسه دون وجود قوي، إن لم يكن غير مسبوق، للمتعاقدين المدرجين. وقد تجاوزت في العراق نسبة المتعاقدين إلى القوات 1/1.
وكانت وزارة الخارجية قد اعترفت في الصيف الماضي أنها لا تستطيع البقاء في العراق من دون اعتماد شديد على الأمن الخاص.
ويرى “سكونر” أن الإحصاء الدقيق أمر ذي أهمية حرجة بالنسبة لأية مناقشات تتعلق بتكاليف وعوائد الجهود المبذولة في العراق وأفغانستان، معتبرًا أن المعارضين للحرب يستفيدون من التواجد الكبير للمتعاقدين هناك حيث يسمح لهم ذلك بالذهاب إلى أن التواجد العسكري الأمريكي أقل مما ينبغي أن يكون عليه.
وبقدر الاهتمام الذي يوليه الشعب إزاء الخسائر في الأرواح بصفوف الجيش، فإن هذه الخسائر البشرية داخل الجيش والمترتبة على المهمة في العراق تبدو أقل كثيرًا مما كان يمكن أن تصبح عليه في حال عدم اعتماد الولايات المتحدة بشكل كبير على المتعاقدين.
وقد ارتفعت معدلات الوفيات بين المتعاقدين على نحو دراماتيكي خلال عامي 2006 و2007؛ فبعد وفيات أقل بنسبة كبيرة خلال السنوات الثلاثة الأولى من حرب العراق، لقي على الأقل 301 متعاقدًا مدنيًا مصرعهم في عام 2006. وفي عام 2007 لقي على الأقل 353 متعاقدًا مدنيًا في العراق مصرعهم بينما لقي 901 عسكريًا أمريكيًا مصرعهم هناك. بعبارة أخرى، فإن المتعاقدين مثلوا في عام 2007 ما نسبته أكثر من واحد بين كل أربعة حالات وفيات مرتبطة بالاحتلال الأمريكي.
وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على أن عدد الوفيات في صفوف المتعاقدين لا يتم إحصاؤها كاملة. وقد بدأ الكونجرس في العام الماضي للمرة الأولى في مطالبة كلٍ من البنتاجون، ووزارة الخارجية، ووكالة التنمية الدولية بمتابعة عدد المتعاقدين العاملين في العراق وأفغانستان وأعداد القتلى والمصابين منهم. واعترفت وزارة الدفاع الأمريكية مؤخرًا بأنها تحاول فعل ذلك غير أنها لم تُنجز المهمة بعد.
أما وزارة العمل فتعلن عن حالات الوفيات الخاصة بالمتعاقدين وإن كانت لا تنشر البيانات بصورة ربع سنوية، إلا أنها تعلنها فقط بسبب دعاوى التأمين التي يتم رفعها لدى ﻗﺴﻢ “ﻟﻮﻧﺞ ﺷﻮر أند هارﺑﺮ” ﻟﺘﻌﻮﻳﺾ اﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ اﻟﺘﺎﺑﻊ ﻟلوزارة. ولكن في حالة لم تسع عائلة أو رب عمل متعاقد ما للحصول على التعويض التأميني، فإن حالة الوفاة هذه لا يتم حسابها. ومما لاشك فيه فإن إجمالي عدد القتلى يفوق بمراحل ما هو معلن عنه والمتعاقدين يتحملون النصيب الأكبر في هذا الصدد أكثر مما يعرف الشعب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ستيفين سكونر: محامي عسكري متقاعد، ومدير مشارك في برنامج قانون المشتريات الحكومية بجامعة جورج واشنطن الأمريكية.