لقد أدركنا من خلال الحلقتين المتقدمتين الخطأ الذي وقع فيه الباحث عبد الحكيم أبو اللوز حين حكم على السلفية بالتصلب والنصوصية الحرفية، ولم يقتصر على اتهام بعض المنتسبين إلى السلفية ممن قد يقع في شيء من التصلب أو الجمود على ظاهر نص اتجه تأويله بدليل شرعي ومأخذ مرعي.
والذي أريد أن أوضحه في هذه الحلقة هو أن القناعة التي جزم بها الباحث إنما مرجعها إلى تصور فاسد يعاني منه كثيرون؛ وذلك أن عددا من الكتاب والصحفيين والباحثين والسياسيين يجزمون بأن السلفية منهاج في التدين لا يخلو من تشدد وتطرف.
والسبب في ذلك أنها تعظم النص، وتصونه من عملية التحريف التي يخضعه لها المتحللون من الأحكام الشرعية.
وهؤلاء المتحللون قسمان:
الأول: يصرح برفضه لحاكمية النص وقدسيته
أي(1): يقول: أنا لا أؤمن بشيء اسمه حجية النص، أو طاعة الله ورسوله، وهذا خرج من الإسلام من باب واسع.
والثاني: يقر -قولا وادعاء- بتلك الحاكمية، لكنه يرفضها عملا وسلوكا -على تفاوت بين هؤلاء في درجة الرفض-؛ وبمعنى آخر أنه يشهد بقوله بأن النص قدسي وأن طاعة الله ورسوله واجبة، ولكنه يفرغ هذه الحقيقة عن معناها برفض دلالة بعض النصوص ولو كانت قطعية أو تقوم على غلبة الظن (وهو مناط حجية؛ وأكثر أحكام الشريعة أغلبية الظن وليست قطعيته).
ففي الأعم يتكأ على عدم قطعية الدلالة ليسوغ لنفسه رد الحكم بتأويله بل تحريفه.
وهذا خارج عن سَنن العلماء الذين اتفقوا على أن ظاهر النص معتبر، وأن تأويله لا يصح إلا بدليل وأن حجيته لا ترد بسبب كون دلالته ظنية غير قطعية.
وهذا أصل سلفي يحرص كل منتسب إلى السلفية على العمل به، وهو السبب في وصف الكثيرين له بالتشدد أو التطرف؛ وأنه مجانب للإسلام السمح المعتدل.
وهذا يجرنا إلى التساؤل عن المعيار الذي نقدر به السماحة والاعتدال بعد أن نتفق على أنهما صفتان محمودتان؛ إذ أن نبينا صلى الله عليه وسلم بعث بحنيفية سمحة، وربنا جعلنا أمة وسطا، واستفاضت النصوص ببيان يسر هذا الدين.
فالسؤال المطروح هو:
ما هو المعيار المعتمد والصحيح للحكم على سلوك معين أو منهج تدين معين بأنه معتدل أو متطرف؟
ولن يصح الجواب على هذا السؤال إلا بتحكيم الشرع وإبعاد الهوى؛ ولا يصح –أبدا- تحديد الاعتدال بناء على ما تهواه النفس وتميل إليه:
قال الخالق الخبير سبحانه: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48].
فالاعتدال حق، وقد دلت هذه الآية على أن الحق لا يعرف باتباع الهوى، بل يعرف بدلالة الشرع.
ومن هنا قال العلماء: “المعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق أنَّه الميلُ إلى خلاف الحقِّ”.
فالشرع هو الحاكم، وحكمه هو الحق، ومتى أحست النفس بأن حكم الشرع يتنافى مع الاعتدال واليسر فإنما هو لخلل فيها وغلبة الهوى عليها، وقد علم أن حب الشيء يعمي ويصم.
قال العلامة ابن رجب: “فجميعُ المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على الحق الذي شرعه الله ورسوله، وقد وصف اللهُ المشركين باتِّباع الهوى في مواضع من كتابه؛ قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ} [القصص:50].
وكذلك البدعُ، إنَّما تنشأ من تقديم الهوى على الشَّرع، ولهذا يُسمى أهلُها أهل الأهواء”( 2).
وعلاجا لهذا المرض ورد معنى حديث: “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به”(3).
قال العلامة الشاطبي: “العقل إذا لم يكن متبعا للشرع؛ لم يبق له إلا الهوى والشهوة، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين”اهـ.
وإذا ظهر لنا المعيار الصحيح لتحديد مفهوم الاعتدال فلا بد أن نبين هنا أن التطرف قسمان؛ تطرف نحو الغلو، وتطرف نحو التمييع والتساهل المذموم.
ولا يمكن أن يوصف سلوك المرء بالاعتدال والوسطية والسماحة إلا إذا سلم من نوعي التطرف؛ وهو ما ينبغي أن يفهمه أولئك الذين يبالغون في ذم الغلو والتشدد والتنطع، وهم غارقون في الميوعة والتهاون والتقصير، الذي يسوغونه إما بمفهوم خاطئ للرجاء وإما بتأويل باطل للنص وإما بالإهمال واللامبالاة.
وقد شاع هذا التصور مع الأسف حتى صار هؤلاء هم من يوصفون بالسماحة والاعتدال.
وهكذا فشا هذا المعيار الفاسد في الحكم على الشيء بالاعتدال أو التطرف؛ فكلما تخلص المسلم من قيد شرعي كلما اشتد وصفه بالسماحة والاعتدال، وكلما التزم مسلم بقيد شرعي أو أدب مرعي كلما كان أقرب إلى التشدد والتنطع والمبالغة، وهو ما يتهم به السلفي!
ومن هنا نقول: ما ذنب السلفي إذا اعتقد –مثلا- حرمة الاستماع إلى الموسيقى وحلق اللحية والإسبال وسفر المرأة بغير محرم ومصافحتها إن كانت أجنبية عنه، واعتقد وجوب غض البصر عن المحرمات ووجوب خصال الفطرة العشرة، ونحو ذلك من الأحكام التي تضيق بها نفوس وتمجها طباع، حتى صارت في المجتمع غريبة، وأحيانا مضحكة.
وهو ما حمل كثيرا من (الإسلاميين) على هجرها تحت تأثير الضغط، بل إن هذا الضغط أدى ببعضهم إلى التقصير في ممارسة أحكام يقر بها المقصر؛ كوجوب الحجاب على المرأة؛ مما أدى بكثيرات إلى ارتداء الحجاب المتبرج خوفا من رميهن بالتخلف والظلامية والتشدد، ومن هؤلاء مع الأسف بعض المنتميات إلى الدعوة؛ فهذه تحسر عن مقدم شعرها، وهذه تضع مساحيق التجميل، وهذه تتفنن في ارتداء اللباس الجذاب، وكأن شبح تهمة التطرف يعلو رأسها بعصا مخيفة.
.. ما ذنب السلفي إذا آمن بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أعفوا اللحى” وقوله: “لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم”، وقوله: “ما أسفل من الكعبين في النار” وقوله: “يستحلون المعازف” وقوله: “إني لا أصافح النساء”، ..
ما ذنبه إذا عمل بهذه النصوص وهو يوقن بثبوتها؛ إذ هي مروية بالأسانيد الصحيحة ومخرجة في أوثق دواوين الرواية (صحيحي البخاري ومسلم).
ما ذنبه إذا عمل بها وهو موقن بدلالتها التي تتابع على تأكيدها العلماء، ولم يعرف منهم من خالف دلالتها على التحريم إلا شذوذا في القديم أو تأويلا متعسفا في الحديث، يظهر منه هو بدوره المعاناة من الضغط والإكراه، اللذين يحاول إخفاء وطأتهما بلبوس المقاصد وفقه المصالح والأولويات.
ليس من المعقول ولا من المنطق ولا من الإنصاف أن نحكم على السلفي بالتشدد لأنه أبى أن يترك العمل بتوجيهات نبوية شريفة هي أحب إليه من آله وماله.
والعجيب حقا أن هذا الموقف الخاطئ وصل بالبعض إلى قرن السلفية (الوهابية)؛ بالتشيع! وأنهما يجتمعان في تهديد استقرار المغرب!!
وهذا الادعاء غريب في بلد رجالات السلفية من أمثال: العلامة بوشعيب الدكالي وشيخ الإسلام ابن العربي العلوي والعلامة الفقيه عبد الله السنوسي والعلامة الأديب عبد الله كنون والعلامة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي والعلامة الدكتور لحسن وجاج ..إلـخ.
وكلهم –وأمثالهم- علماء مصلحون، أسدوا لهذه البلاد خدمات جليلة، تتأسس على إصلاح ديني سلفي متأصل في المغرب قبل أن تعرف دعوة محمد بن عبد الوهاب.
ولا عيب بعد ذلك أن يتواصلوا مع إخوانهم السلفيين من المشرق؛ كعلماء المملكة السعودية الذين ينبزون بالوهابية!
قال الشيخ الرحالي الفاروق: “وبهذا تكون السلفية في المغرب مرتبطة من قريب أو بعيد بالسلفية في المشرق، وكما أن دعوة الإسلام جاءت من المشرق، فلا جرم أن تكون الدعوة السلفية كذلك، فإن المغرب مرتبط بالمشرق ارتباطا روحيا وفكريا”اهـ.
.. إن من يتأمل في هذه الحملة الإعلامية على السلفية يدرك –بعمق- فقه قول النبي صلى الله عليه وسلم: “طوبى للغرباء”.
قيل: “ومن الغرباء يا رسول الله؟”
قال: “ناس صالحون قليل، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم”(4).
وهذا حال السلفيين الصادقين بين عامة المسلمين، كما أنه حال المنهاج السلفي بين المناهج المتبعة في فهم الدين وتطبيقه وممارسة أحكامه، سيما تلك التي تفرض على المسلمين في مرحلة الذل والهوان التي يمرون منها الآن، والتي أسأل الله تعالى أن يعجل بانقشاع سحابها وذهاب رياحها.
كما أسأله سبحانه أن يمكن لدينه القويم ويهدينا جميعا صراطه المستقيم، وأن يكفينا شر الفتن والنزاع والصراع، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، ولا حول ولا قوة إلا بالله(5).
لا زالت هناك مسائل سأناقشها إن شاء الله حول رؤية الباحث عبد الحكيم أبو اللوز وذلك في مناسبة أخرى إن شاء الله، أما زعمه بأن الانتقال سهل من السلفية الجهادية… فقد رددت عليه في البابين الثالث والرابع من كتابي…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) هذا قصدي بإنكار الحاكمية، فلا تغتر بالمفهوم الخاطئ الذي يقصده بعض المبتدعة.
([2]) جامع العلوم والحكم (ص:397) بتصرف يسير.
([3]) حديث مشهور، لا تصح نسبة لفظه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ انظر المصدر السابق (ص:393) فما بعدها.
([4]) رواه أحمد (2/177و222) وصححه الألباني؛ انظر: السلسلة الصحيحة (1619).
([5]) وفي الختام أنصح كل الكتاب والباحثين والصحافيين والسياسيين المهتمين بموضوع السلفية أن يأتوا البيت من بابه، وأن يعتمدوا الموضوعية والنزاهة في تقييم (التوجه) السلفي والحكم عليه: هل هو توجه إصلاحي يخدم الدين والأمة أم فكر دخيل يفسد ويخرب؟ وليس من العلم ولا من الموضوعية أن نحكم على السلفية من خلال تصور جاهل بها أو نظرية معاد لها أو إملاءات من يرى مصلحته في الحد من انتشارها.
هذا ولا زالت هناك مسائل أريد أن أناقشها حول رؤية الباحث عبد الحكيم أبو اللوز ومن معه، ولعلي أتحين لذلك مناسبة أخرى إن شاء الله، هداه الله وأصلح باله.