تتمتع ظاهرة إنشاء الجامعات والمعاهد الأجنبية بالمغرب بامتياز خاص من الدولة، حيث تعتمد مقررات فرنسية أو أمريكية، ونرى أن الأعيان من النخبة الفرنكوفونية يتسابقون لتسجيل أبنائهم بها، بعضهم يراها إيجابية، باعتبار أنها نوع من الإثراء والتنويع الثقافي، بينما يرى آخرون أنها تهدد هوية المغرب ووحدته الثقافية.
أي بلد يطمح أن يرسم سياسة تعليمية مستقلة، لا بد له أن يعتمد على موارده الذاتية، حتى يكون له استقلال في اتخاذ القرار، وفي بناء نظام تعليمي غير مستورد، لكن جل بلدان العالم الثالث مع الأسف لا تملك من المؤهلات البشرية ومن الموارد المادية ما يمكنها من بناء نظام تعليمي مستقل، لذلك فهي تفتح أبوابها لدعم الأجنبي. شيء طبيعي إذن، أن دعم الأجنبي لا بد أن يكون مشروطاً بمجموعة من الضرائب المعنوية.
ففي المغرب مثلاً يتجلى هذا في النظام التعليمي، في تعدد الأنساق التعليمية على الصعيد الوطني، فليس لدينا نسق تعليمي واحد، صحيح أنه يوجد لدينا في المغرب مؤسسات ثانوية، وأساسية أجنبية فرنسية بوجه خاص، ولكن الأخطر من ذلك هو اعتماد مناهج تعليم فرنسية في المدارس المغربية، بحيث إن رياض الأطفال الآن في المدن الكبرى: فاس والرباط والدار البيضاء ومراكش.. مثلاً، تعتمد اللغات الأجنبية في رياض الأطفال، منذ البداية، ثم إن الكتب المدرسية المقررة تأتي مباشرة من فرنسا وإنجلترا، وليست كتباً مغربية!
إذا كانت المؤسسات الأجنبية مؤسسات محدودة في العدد، فإن خطرها أقل من خطر اعتماد المؤسسات التعليمية المغربية خاصة على مستوى رياض الأطفال والتعليم الابتدائي والأساسي لأنها تستوعب شريحة واسعة من أبناء المغاربة الذين يرون في تعلم الإعلاميات، والإنجليزية، واللغة الفرنسية، وغيرها من المواد، منذ التعليم الأولي المنقذ المستقبلي المادي، هذا من ناحية.
أما من ناحية ثانية فوزارة التربية الوطنية، حين يطرح عليها السؤال حول البرامج والمناهج التي تعتمدها مؤسسات التعليم الأجنبي بالمغرب، فإنها لا تفتأ تؤكد أنها ستعمل بحزم على ضرورة احترام البرامج والمناهج التعليمية المغربية الأساسية في هذه المؤسسات، على اعتبار أن هذه المؤسسات توجد فوق التراب المغربي، ويدرس فيها أبناء المغاربة. لكن مثل هذه الرؤية، ومثل هذا القرار يحتاج إلى استقلال حقيقي، يحتاج إلى سيادة، يحتاج إلى رؤية واضحة لبرامج ومناهج التعليم، يحتاج إلى توفر البلد على الموارد المادية والبشرية للتحكم في نظامه التعليمي. أمَّا ونحن نمد أيدينا إلى المؤسسات الممولة الأجنبية، فشيء طبيعي أن مثل هذا القرار لا يمكن أن نتخذه، لأنه من شرط التمويل الأجنبي أن يسمح لهامش من برامجه ومناهجه أن يتغلغل ويتوسع في النظام التربوي والتعليمي بالمغرب.
طبعاً نتيجة كل هذا هو أننا في المغرب نعيش بأنظمة تعليمية متعددة، فمن النظام الفرنكوفوني من التعليم الأساسي والثانوي، إلى النظام التعليمي العصري (المغربي)، إلى نموذج التعليم الأصيل.
نرى كل هذا في التعليم الثانوي والأساسي، وعلى مستوى التعليم الجامعي هناك النظام الأنجلوساكسوني الذي تعتمده جامعة الأخوين، والنظام الفرنكوفوني المعتمد في كثير من الشعب بكلية الآداب، وكليات العلوم، وكليات الحقوق، خاصة على مستوى لغة التدريس.
وذلك يصارع نظاماً عربياً إسلامياً يتمثل في شعب الدراسات الإسلامية، واللغة العربية، إذن هناك خليط في الأنساق التعليمية، بحيث لا يمكننا أن نقول: إننا نعيش نمطاً واحداً موحداً من النظام التعليمي التربوي بالمغرب. فجامعة الأخوين في الإصلاح الجامعي استثنيت بمادة خاصة في القانون التنظيمي من الإصلاح الجامعي، لأنها جامعة لها خصوصياتها في التكوين، وفي البرامج والمناهج. إذن هي جامعة غير مغربية على التراب المغربي! على اعتبار أنها لا تخضع لنفس الإصلاح الذي عنى باقي الجامعات الأخرى.
لكن لنتصوَّرْ معا! لو أن جامعة القرويين مثلا طالبت أن يكون لها نفس هذا الاستقلال، على اعتبار أنها جامعة لها خصوصياتها، فشيء طبيعي أن يرفض هذا الطلب، فكيف يمكننا أن نكيل بمكاييل متعددة في نظام تعليمي يفترض أن يكون موحداً؟
إن ظاهرة إنشاء الجامعات والمعاهد الأجنبية، التي تعتمد مقررات فرنسية أو أمريكية، ويتهافت الناس على إلحاق أبنائهم بها، هي ظاهرة مرضية تسهم بدورها في سلخ الإنسان المغربي عن هويته، وليس فيها تنويعاً ثقافياً كما يدعون، بل هي ذبحة للوحدة الثقافية، لحساب ثقافات معينة، مستغلين في ذلك لهفة الشباب على الهروب من عالم البطالة، ومن عالَمٍ آفاقه المادية محدودة إن لم تكن مسدودة، إلى عالم آخر عكس ذلك، حيث الحرية والمال والأعمال.