لا شك أن هناك فرقا كبيرا جدا بين الدارس المنصف؛ وبين المغرض والحاقد والجاهل..؛ فالأول يدرس المسألة دراسة منصفة ليصل إلى نتائج صحيحة يخدم بها طرحه؛ ويحقق أهدافه؛ ويضع من خلال كل ذلك خططا ملائمة لمواجهته الخصم؛ وكفيلة للحد من قوته أو القضاء تماما عليه؛ في حين يبقى كلام الباقي صيحة في واد ومجرد هرطقات لا معنى لها ولا غرض من ورائها سوى التشغيب والإشغال.
لم يعد خافيا اليوم لدى معظم المتتبعين أن الشريعة الإسلامية هي العدو اللدود للتيار العلماني؛ فمن أجل تنحيتها من كافة مجالات الحياة يسلك هذا الفصيل المتلون دروبا ملتوية وطرقا متعددة للحيلولة دون تطبيقها في أي من مجالات الحياة.
وإذا كان بعض المنتسبين إلى هذا التيار يرى أن (الإسلام كدين لم يحدد للمسلمين نظاما محددا للحكم)؛ وأنه (لم يفرض شكلا معينا من أشكال الحكم؛ ولم يضع نظاما محدد التفاصيل والجزئيات؛ إنما أتى بالأصول والمبادئ العامة الثابتة التي ينبغي الالتزام بها في صياغة نظام الحكم)؛ فالباقي منهم يرى أن (الشريعة هي نظام رجعي متخلف طوبوي)؛ ولا يستنكف على الإطلاق من حصر الشريعة في الحدود والعقوبات والتعزيرات.. ووسمها بـ(الغلو والتشدد والدموية وتعطيل دور المرأة.. وعدم قدرتها بتاتا على تأطير وتوجيه حياة الأمة)؛ و(أنها شريعة عصر الجمل لا تصلح لعصر الفضاء) وأنه (لا وجود لشيء اسمه الشريعة أصلا؛ وإنما هي مطالب للتيارات الإسلامية السياسوية).
وغالبية أتباع هذا التيار يصمون آذانهم عن سماع الحقيقة التي تثبتها مصادر الشريعة التي ينتسبون إليها والتاريخ والواقع؛ ولن ننقل في هذا الإطار نصوص الشرع التي تثبت عكس هذا الطرح؛ ولا الشواهد التاريخية التي تفند هذا الزعم؛ وإنما نورد فحسب مفهوم الشريعة الإسلامية كما قرره وأكده معهد كارينجي للسلام الدولي في الدراسة التي أنجزها سنة 2012 بعنوان: (مصر والشريعة الإسلامية: دليل الحيران).
وهي دراسة أنجزها المعهد عقب الربيع العربي وصعود الإسلاميين؛ أعدها الخبير في الحركات الإسلامية، والسياسات الفلسطينية، والأنظمة القضائية والدستورية في العالم العربي؛ أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن ناثان ج.براون.
حيث عرف ناثان براون الشريعة الإسلامية أنها مصطلح له دلالات تختلف بشكل حادّ في مصر عنها في كثير من الأحيان في الولايات المتحدة أو أوروبا. وثمّة سبب في أن الكثير من العلماء يصرّون على أن تعريفها بوصفها “القانون الإسلامي” (كما توصف في كثير من الأحيان في البلدان غير المسلمة) يبدو ضيّقاً للغاية أحياناً.
فالشريعة تشمل مساحات واسعة من السلوك الشخصي لا تغطّيها عموماً المبادئ القانونية في العديد من المجتمعات (مثل تنظيم الصلاة أو طقوس الطهارة). ولا يقتصر الأمر هنا على أنها تمزج الممارسة الخاصة والأخلاق والقانون العام وحسب، بل تشمل أيضاً فئات كالمكروه (ولكنه غير محظور) والمستحبّ (ولكنه غير مطلوب) والتي تحمل معنى أخلاقياً لكنها لا تنطوي على معنى قانوني مهم. فالترجمة غامضة لمعنى الشريعة، ولكن الأكثر دقّة قد تكون (الطريقة الإسلامية لممارسة الأمور) اهـ.
وقال ناثان براون: هذا هو التعريف الذي يقبله العديد ممَّن يتّبعون الشريعة الإسلامية. ويوضح هذا التفسير السبب في صعوبة معارضة الشريعة الإسلامية. فالتشكيك بعقوبات الحدود (بالنسبة إلى الجرائم الخطيرة) من خلال ادّعاء الرغبة في اتّباع روح وليس نصّ الفهم التقليدي شيء، والتصريح بأن المرء يفضّل أن يمارس الأمر بطريقة غير إسلامية، أو بأن التعاليم الإسلامية لا علاقة لها بالحياة العامة شيء مختلف تماماً. ومن شأن ذلك أن يكون أمراً غير متوقّع، كأن يدّعي مثلاً الساسة الأميركيون أنهم يفضّلون “الطريقة غير الأميركية”.
بطبيعة الحال، الشريعة الإسلامية ليست مجرّد شعار رمزي يرفعه السياسيون، بل هي تنطوي على محتوًى عمليّ هائل لا رمزيّ فقط. بيد أنه يتعيّن على المراقبين ألا يتوقّعوا دعوات كثيرة إلى التخلّي عن الشريعة الإسلامية في المناقشات السياسية.
..الشريعة الإسلامية تدلّ ببساطة، أحياناً، على ما هو أكثر من القانون الإسلامي، إلا أنها تتوفّر بالتأكيد على مضمون قانوني شامل. وقد أدّى اسكتشاف طبيعتها إلى أكثر من ألف عام من البحث الفكري. كانت المعاملات التجارية والعقوبات الجنائية والميراث والإجراءات القانونية (من بين العديد من المجالات الأخرى) موضوعاً لبرامج دراسية لأشخاص سبروا المصادر الدينية لاكتشاف السبل التي يجب أن تعمل جماعة المسلمين من خلالها. كما توفّر الشريعة الإسلامية بعض التوجيهات بشأن الطريقة التي يجب أن يتم التعامل من خلالها مع الانتهاكات، عن طريق التعويض والعقوبات أو إلغاء العقود، على سبيل المثال. ولهذا السبب، الإشارة إلى الشريعة الإسلامية كقانون ليست مضلّلة دوماً.
اختلفت الآراء إلى حدّ كبير على مرّ القرون، كما هو الحال مع أي تقليد فكري، بشأن ما فرضه الله وما هي العواقب الدنيوية المترتّبة على انتهاك قاعدة ما. ولذا، يجهد المسلمون أحياناً للتمييز بين الشريعة الإسلامية بوصفها توجيهاً إلهياً لا يتغيّر، وبين الفقه بوصفه جهداً بشرياً قابلاً للخطأ لفهم مضمون هذه التوجيهات. ثمّة، في هذا المعنى، شريعة واحدة لكن توجد تفسيرات عديدة ومختلفة لها. ولا يُنظَر إلى الطبيعة المتنوّعة للفقه على أنها مشكلة، كما ليس من النادر أن نسمع الكثير من المسلمين اليوم يستشهدون بتعدّد التفسيرات في تراثهم القانوني باعتباره مزيّة، لأنه يظهر كيف أن محاولات اكتشاف الشريعة الإسلامية وتطبيقها تتطوّر بشكل طبيعي مع تطوّر الظروف السائدة واحتياجات المجتمع.اهـ.
لا شك أن هناك فرقا كبيرا جدا بين الدارس المنصف؛ وبين المغرض والحاقد والجاهل..؛ فالأول يدرس المسألة دراسة منصفة ليصل إلى نتائج صحيحة يخدم بها طرحه؛ ويحقق أهدافه؛ ويضع من خلال كل ذلك خططا ملائمة لمواجهته الخصم؛ وكفيلة للحد من قوته أو القضاء تماما عليه؛ في حين يبقى كلام الباقي صيحة في واد ومجرد هرطقات لا معنى لها ولا غرض من ورائها سوى التشغيب والإشغال.
وقد أكد ناثان ج. براون عن معهد كارينجي في نهاية حديثة عن مفهوم الشريعة الإسلامية أن إجاباته تلك (تشكّل دليل عمل على ما يتعيّن على المراقبين مراقبته، أكثر منها محاولة لتقديم المشورة للمصريين بأي حال من الأحوال بشأن الخيارات التي ينحازون إليها أو لدفع بعض التفسيرات أو المقاربات بوصفها مفضّلة على ما سواها من تفسيرات ومقاربات).
موصيا بذلك رجال السلطة ورجال القرار بما يجب فهمه؛ ومنه فعله لمنع تطبيق الشريعة في مصر العربية.