دحض شبهة تضخم الملكية العقارية في عهد عثمان وكشف دافع أوهامه.
في الواقع أن مجرد طبيعة تركيبة مقال مدير جريدة الأسبوع الصحفي، واعتماده حصريا على كتاب “الفتنة الكبرى” في انتقاده لسياسة عثمان رضي الله عنه، ليشهد على أنه لم يكن مجرد عمل ناشئ عن جهل بتاريخ الإسلام وغموض الرؤية وعفوية الانتقاء فحسب، دون خلفية فكرية أو انحراف في التصور.
ولولا خشية اغترار القراء بمجموع ما نقله مصطفى العلوي من كتاب طه حسين، لأغنانا عن الرد عليه مجرد التنبيه على فساد مدلول قوله: ” وفعلا.. طبع عهد عثمان بأنه عهد إنشاء الملكية العقارية الضخمة في تاريخ الإسلام.”(1) حتى نكشف عن علة موقفه وحقيقة توجهه المخبوء في مكنون مقاله، وصدق الله العظيم القائل: {ولتعرفنهم في لحن القول}(2).
فوصف مصطفى العلوي عهد عثمان رضي الله عنه بأنه عهد إنشاء الملكية العقارية، وتنصيصه عليها بوصف الضخمة، هو وصف من ينظر إلى ازدهار المجتمع الإسلامي في خلافة عثمان رضي الله عنه على أنه مجتمع إقطاعي؛ مجتمع يتكون من طبقتين؛ طبقة الإقطاعيين الرأسماليين، وطبقة الفقراء والبؤساء والمحرومين. ويؤكد مصطفى العلوي نظرته هذه تأكيدا بقوله :” لقد سار عمال عثمان في المال، سيرة إمامهم، وإذا أطلق الإمام يده وأطلق العمال أيديهم في الأموال العامة، فلم يكن غريبا أن يحتاج الجند إلى المال فلم يجدوه”(3).
تأمل قول مدير الجريدة: “لقد سار عمال عثمان في المال، سيرة إمامهم” وكذا قوله: “وإذا أطلق الإمام يده وأطلق العمال أيديهم في الأموال العامة”، عمال عثمان بهذا الإطلاق! الآن هو يتكلم عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم، وليس عن عثمان رضي الله عنه فحسب. وهذا اتهام خطير يثير الشبهة حول سلف هذه الأمة، ومطعن في صدق ما شهد لهم به القرآن من تقوى وإخلاص ووفاء وجهاد وتضحية وبذل وسخاء وصدق الانتماء.. ومن أحق بهذه الأوصاف منهم؟!!
وهم الذين عاصروا نزول القرآن، وسمعوا منه عليه السلام مشافهة أصدق الكلام. ومن أوتي هذا الفضل لا يليق أن يوصف بمثل ما تحمله تلك الأوصاف التي ضمها مقال مصطفى العلوي من معاني الإسراف، والسلب والابتزاز والمحسوبية والجشع والطمع والقسوة والاعتداء والظلم!!!
إنها الخيبة والخسران والسفه إذا كان هذا هو تصور مصطفى العلوي لأخلاق مَن جعلهم الله وزراء نبيه، وأنصار دينه، وطلائع جيل أمته.
إن مشكلة مدير جريدة الأسبوع الصحفي وآفة انحرافه تكمن في ما قررناه في مقال سابق، أنه قاس مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم على مجموعة من عُباد المناصب من الإقطاعيين في هذا الزمان. وهذا التصور ناشئ له عن تداخل مدلول الثراء عنده في مدلول الرأسمالية بفعل منظاره الاشتراكي الناتج له عن ضغط ثقافي في تكوينه العقلي، حتى بات لا يرى ثراء ولا رخاء في مجتمع إلا وهو على حساب الفقراء. وبمقتضى قاعدة لا رخاء إلا على حساب الفقراء، فإن ما عرفه المجتمع العثماني من ازدهار حضاري في كل من المجال الصناعي والحرفي والتجاري والعلمي والعقاري والعسكري، بفضل اتساع رقعة المملكة الإسلامية في زمانه التي امتدت من السند إلى الأندلس، حتى عم الرخاء وتدفقت الأرزاق واستتب العز وتحقق التمكين؛ هو في عين مصطفى العلوي مجتمع رأسمالي بل هو عهد نشْأت الرأسمالية ولو كان مجتمع أحد الخلفاء الراشدين.
وهذا إن كان يكشف عن شيء، فهو يكشف عن حقيقة الدمار الفكري الذي يعاني منه أمثال مصطفى العلوي جراء انحرافهم الثقافي وزيغهم المعرفي. وهل تمت علاقة بين الثراء والرأسمالية، وبين الازدهار والإقطاع، إلا في عين من ينظر إلى تاريخ ازدهار الأمة الإسلامية بعين اشتراكية؟!!
إن الإسلام يا مصطفى العلوي دين يعترف بالملكية الفردية، وشرعة تبيح وتشجع على الملكية العقارية. لكنه يفرض على أغنياء المسلمين منهجا للتحصيل دون بغي أو إفساد، وطريقة في الاستمتاع من غير إهدار أو إسراف، وإنما بقصد واعتدال؛ {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(4). ومن هنا يفترق النظام الاقتصادي في الإسلام عن النظام الاقتصادي في الرأسمالية. فالإسلام ليس هو النظام الرأسمالي، ولا الرأسمالية جزءا منه لكونها فقط تبيح الملكية الفردية. كما أنه ليس هو النظام الاشتراكي الذي يحرم الأثرياء ثراءهم، و يقطع الطريق أمام إظهار قدراتهم وإبراز كفاءاتهم في الإنتاج وتحقيق رغباتهم في كسب المال. فليس هناك إسلام رأسمالي، ولا إسلام اشتراكي، كما يزعم بعض جهال المثقفين. ولا يخلط بين الثراء في ظل أسس نظام اقتصادي إسلامي، والثراء في ظل أسس نظام رأسمالي أو نظام اشتراكي أو غيرها من الأنظمة الوضعية إلا من لا يعرف الإسلام.
دعوى تكذبها حجم الفتوحات الإسلامية في عهد عثمان رضي الله عنه.
أما قول مصطفى العلوي: “فلم يكن غريبا أن يحتاج الجند إلى المال فلم يجدوه”، فجوابنا عنه هو: أين النقل الصحيح الذي يثبت هذا؟
فإن التاريخ قد حفظ لنا أن جيش عثمان فتح جنده أذربيجان، وطبرستان، وخراسان، وطخارستان، وكرمان، والجوزجان، والطالقان، والفاريان، وسوات، وكابل، وسجستان، ونيشابور، وبلاد الشام، وبلاد النوبة، والقسطنطينية، وإفريقية؛ الإسكندرية، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، ثم الأندلس. حتى اتسعت حدود الخلافة في عهده رضي الله عنه من بحر القزوين وجبل قاف إلى سواحل ولاية غجرات بالهند إلى ساحل المحيط الأطلسي غرب المغرب(5). وإن جندا يا مصطفى العلوي هذه إنجازاته لا يصدقك أحد في دعواك أنه كان يحتاج إلى مال فلم يجده، لاسيما إذا ما علم أنه كان يملك أسطولا بحريا عظيما بقيادة عبد الله بن قيس رضي الله عنه(6)!!!.
وخلاصة الأمر أن العبرة في الحكم على مناهج الاقتصاد عند الأمم، و مذاهب الناس في معاملاتهم التجارية لا تنحصر مثلا في تقرير الملكية الفردية أو عدم تقريرها، فإن هذه لا تعدو أن تكون صورة قد يشترك في تقريرها أو عدم تقريرها أكثر من مذهب، إنما العبرة في الحكم بأسس النُّظم ومبادئ المعاملات. ومن ثم فلا تعجب ممن يجهل هذا الضابط دعواه أن عثمان بن عفان هو أول من ابتدع الرأسمالية، أو أن غيره من الصحابة هو أول من ابتدع الاشتراكية، وإنما العجب ممن زاد على جهله وجعل من نفسه ناقداً وذاما لمن هو أعلم منه بمبادئ الإسلام، فيصدق في حقه قول الناظم:
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مقال: البيزنس .. قتل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. العدد 557/ 994 الجمعة 14 رمضان 1430 موافق 4 شتنبر 2009.
(2) سورة محمد الآية 30.
(3) من نفس المقال.
(4) سورة القصص الآية 77.
(5) تاريخ الخلفاء الراشدين 3/180-221، لعلي محمد محمد الصلابي.
(6) نفس المصدر3/221.