نشرت جريدة الاتحاد الاشتراكي يوم الخميس 16 أكتوبر، العدد 8998 مقالا للدكتور أحمد الخمليشي بعنوان: “الخمليشي مدير دار الحديث الحسنية يرد على بلاغ المجلس العلمي، وينقل اتفاق الأئمة الأربعة على مشروعية زواج الصغيرة” ناقش فيه الدكتور محمد المغراوي حول قضية زواج الصغيرة، وقد وجدت في هذه المناقشة أخطاء علمية فادحة، رأيت أن أرد عليها في حِلَقٍ تأتي تباعا إن شاء الله تعالى، ولكن قبل ذلك أود أن أوضح أن ردي على الدكتور الخمليشي لا يعني أني أشجع على زواج الصغيرات، أو أدعو إليه، وذلك لأني أعتقد أنه لا بد من مراعاة أعراف الناس ما لم يكن في الشريعة ما يحرمها ، فهناك أمور دلت الشريعة على إباحتها، إلا أنها منكرة عرفا، ومعدودة في خوارم المروءة (مثل الخروج إلى الشارع العام في سروال يستر العورة فقط)، فلا أحب أن يُفهم من ردي على الدكتور الخمليشي أني أدعو إلى مخالفة مدونة الأسرة، وإنما المقصود هو بيان ما وقع فيه الدكتور من هفوات علمية وأخطاء تتنافى مع البحث العلمي النـزيه، لكن قبل ذلك رأيت من الإنصاف أن أبين ما في مقاله من مواقف إيجابية تسجل لصالحه:
إيجابيات في مقال الدكتور الخمليشي
1- الدكتور الخمليشي جاء مقاله بعيدا عن الغوغائية والأسلوب السوقي الهزيل الذي اختاره بعض الصحفيين الذين يستأكلون بأعراض الناس، ويفرحون بحدث مثير يروجون به صحفهم ولو على حساب الآخرين.
2- الدكتور الخمليشي مع أنه مخالف للدكتور المغراوي في رأيه فإن ذلك لم يمنعه من أن يضمن مقاله شيئا من التقدير والاعتراف بفضل الشيخ ومكانته العلمية، كما يدل على ذلك قوله مثلا: “يبدوا مؤكدا أن السيد المغراوي وهو ممن كتبوا في تفسير كتاب الله..”، وقوله : “لذلك يحق لنا أن نسأله وهو باحث ومفسر وفقيه..”، وكم كنت أتمنى أن يسلك المجلس العلمي الأعلى في رده على الشيخ أسلوبا علميا متينا بعيدا عن السب والشتم.
3- الدكتور الخمليشي رد في مقاله على فكرة خاطئة يتبناها بعض اليساريين وهي النظرية القائلة بمراجعة الإسلام، ونقد النصوص الشرعية على ضوء المناهج الغربية، للخروج بإسلام على المقاس الغربي.
4- الدكتور الخمليشي رد على الرأي القائل بأن أحدا من علماء السلف لم يقل بتزويج البنات في سن الطفولة، وهو بذلك يرد على ما ادعاه المجلس العلمي الأعلى حيث جاء في بلاغه: “أن هذه الحالة –(يعني حالة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة) لم يجز أحد من علماء السلف القياس عليها واعتبروها مما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم”، وقد فند الدكتور الخمليشي هذا الادعاء بقوله: “كان ينبغي انتقاد سند هذا الرأي وليس إنكار وجوده، فالمذاهب السنية الأربعة والمذهب الظاهري، والمذاهب الشيعية من إمامية وإباضية وزيدية، جميعها تقول بجواز تزويج الصغيرات، نعم هنالك رأي مخالف ولكن أهملته المراجع المذهبية إلى حد ادعاء الإجماع على إباحة تزويج الطفلات.
ينقل الشوكاني في نيل الأوطار (6/252): «قال المهلب اجمعوا أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر ولو كانت لا يوطأ مثلها». وابن حجر العسقلاني في شرحه للحديث رقم (5081) من صحيح البخاري نقل أيضا: «وقال ابن بطال: يجوز تزويج الصغيرة بالكبير إجماعا ولو كانت في المهد، لكن لا يمكَّن منها حتى تصلح للوطء» (فتح الباري 9/154)، والبنت تكون في المهد في السنتين الأوليين من ميلادها.
وفي المغني لابن قدامة (6/490) «إن الصغيرة ذات التسع سنين أو أقل من التسع يزوجها أبوها بغير إذنها، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وسائر الفقهاء». ومن أراد المزيد فليرجع مثلا إلى مدونة الإمام مالك والأم للإمام الشافعي وإلى غيرهما من المراجع المعتمدة في المذاهب المختلفة. فهل بعد هذا يقال إن أحدا من علماء السلف لم يجز تزويج الصغيرة؟”.
فكان ينبغي على من يرى في نفسه الأهلية لمخالفة هؤلاء العلماء الفطاحل أن يتأدب بأدب الخلاف، وأن يحترم رأيهم على الأقل، خاصة وأن فيهم الإمام مالك الذي اختاره المغاربة إماما لهم، وجعلوا مذهبه مذهبا رسميا لهم.
المؤاخذات التي على الدكتور الخمليشي
1- قوله: “..لذلك نعتقد أن ما ينبغي أن يناقش فيه السيد المغراوي عندما تحمل مسؤولية الإفتاء باسم الشريعة في زواج الصغيرات”.
السيد المغراوي لم يتحمل مسؤولية الإفتاء في زواج الصغيرات، ولم يُفْتِ أحدا بتزويج ابنته الصغيرة، وإنما فسر قوله تعالى: “واللائي لم يحضن” بما فسرها به غيره من العلماء، وقد بين ذلك بيانا شافيا في رده على المجلس العلمي الأعلى، وقال فيه: “فأنا لم آمر أحداً بتزويج ابنته في أي سن من الأسنان، فالأمر بيد القضاة”. وقال في حواره مع جريدة السبيل العدد 39: “في البلاد الذي فيها قضاة شرعيون ومأذونون في الأنكحة “العدول” فلا يجوز عقد النكاح إلا عن طريق القاضي ومندوبيه لأن الأنكحة عهود ومواثيق يجب أن توثق عن طريق ولي الأمر ومن يمثله، لأن توثيق العقد له منافع كثيرة في كل وقت ولا سيما عند حدوث النزاع بين الزوجين، فلا أجيز عقدا بدون توثيق وهذا معروف عني من قديم ويمكن الترخيص في بلد لا قضاة فيه ولا مندوبين ويعيش البلد في انفلات لا تحكمه حكومة فهؤلاء يتولى نكاحهم أهل العلم ومن يوثق به من الصادقين والناصحين”.
وهذا يعني بعبارة أخرى أن الشيخ لا يجيز من الناحية العملية التطبيقية زواج البنت التي يقل سنها عن 18 سنة، إلا إذا أجازها القاضي، فلا داعي لتحميل الموضوع أكثر مما يحتمل.
2- أخذ الدكتور على الشيخ المغراوي أمورا ثلاثة في كلامه عن الآية هي:
” – إهمال الرأي الفقهي القائل بمنع تزويج الصغار ذكورا وإناثا.
– نقل الرأي القائل بإباحة تزويج الصغار دون مناقشة سنده وبيان أسباب اقتناع السيد المغراوي به.
– إهمال موقفه من أهلية الزواج المقررة في مدونة الأسرة”.
هذا الكلام صحيح لو كان الدكتور الخمليشي يناقش طالبا اسمه محمد المغراوي في رسالة علمية عنوانها: “زواج الصغيرة بين أقوال الفقهاء ومدونة الأسرة”، لكن الواقع هو أن الشيخ أجاب عاميا من خارج المغرب سأله عن معنى الآية عبر الأنترنيت، فكيف يطالب الدكتور الشيخ أن يعقد لهذا العامي الذي ينتظر منه جوابا مختصرا محاضرة جامعية في هذه المسألة، يستعرض فيها الأقوال كلها مع بيان سند كل قول، ثم في الأخير يبين لهذا العامي غير المغربي موقفه من أهلية الزواج المقررة في مدونة الأسرة المغربية؟! (سياق كلام الدكتور يؤكد على أن كلامه هذا منصب على تفسير الشيخ للآية، الذي كان سببا في الضجة الإعلامية). ومع ذلك فللشيخ أعذار تجعل هذه الملاحظات عليه ضعيفة:
– أما إهماله للرأي الفقهي القائل بمنع تزويج الصغار فالجواب عليه أنه قول أهملته المصادر وذلك بشهادة الدكتور حين قال: “هنالك رأي مخالف ولكن أهملته المراجع المذهبية إلى حد ادعاء الإجماع على إباحة تزويج الطفلات”، فإذا كان الشيخ قد أهمله فقد أهمله من هو أعلم من الشيخ ومن الدكتور الخمليشي. وهو إهمال مقصود يدل على عدم الالتفات إليه لضعفه عندهم، وحكايتهم للإجماع دليل على عدم اعتباره، فهو عندهم كالعدم، خاصة وقد نقلت مشروعية زواج الصغيرة عن بعض الصحابة، واشتهر عنهم ذلك من غير مخالف لهم ، فهذا إجماع سكوتي عند من يقول به ، وحجة عند القائلين بحجية قول الصحابي إذا لم يكن له مخالف من الصحابة ، فلعل هذا هو السبب الذي جعل أكثر أهل العلم لا يلتفتون إلى الخلاف الذي نشأ بعد الصحابة في هذه المسألة.
– أما ادعاؤه أن الشيخ لم يبين سنده وسبب اقتناعه بالتفسير الذي ذهب إليه فليس بصحيح، بل قد بين الشيخ سنده، والسند هو نفسه سبب الاقتناع، وقد تناقض الدكتور حين قال بعد ذلك: “حسب فتوى السيد المغراوي السند هو..” ثم ذكر الآية والحديث. قلت: أما الآية فقد أجمع المفسرون على أنها في الصغيرة التي لم تحض، وأما الحديث فهو في الصحيحين. وهذا كاف في بيان سند الشيخ وسبب اقتناعه، لكن يبدو أن الدكتور يعني بالمناقشة ما فعله هو في مقاله من تشكيك في الحديث الصحيح باتفاق المحدثين، ومن رد للتفسير الذي أجمع عليه العلماء.
– وأما إهمال الشيخ لبيان موقفه من أهلية الزواج المقررة في المدونة فقد سبق أن الأمر يتعلق باستفسار لعامي عن معنى الآية، وليس بمحاضرة في الفقه المقارن أو بحث أكاديمي، والمدونة ليست كتاب تفسير.