الدعوة إلى الله أشرف مهمة يقوم بها إنسان، لذلك اصطفى الله تعالى لها أكرم خلقه فجعلهم رسله إلى الناس، والداعية المسلم داعٍ إلى الله تعالى: {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}، وهو نائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المهمة؛ لذلك كان من الطبيعي أن تكون دعوته على بصيرة، أي عن علم بما يقول الله تعالى، وما يقوله رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان من البديهي أن يكون ملتزماً في دعوته أشد الالتزام بما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يحيد عنه قيْد أنملة، وإلاّ لم تكن دعوته إلى الله، بل كانت إلى ما يراه هو وما يهواه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
لكن ما أصعب أن يلتزم الداعية -حتى لو كان مخلصاً- بمثل هذا الالتزام، في بيئة تكون فيها شرائع الإسلام التي يدعو إليها غريبة غير مألوفة! ما أسهل أن ينزلق الداعية فيحيد عما أوحى الله، وهو يحسب أنه يدعو إلى الله!
لقد كان سبب العزلة التي سقط فيها بعض الناس -وهم من الدعاةـ أنهم في سبيل جعل الحكم الشرعي والتكليف الرباني مقبولاً للعقلية الغربية أو المستغربة، بدؤوا يضيقون ذرعاً بكل ما لا تقبله هذه العقلية المريضة من تعاليم هذا الدين، وإن كان مما جاءت به النصوص الصريحة، وإن كان محلَّ إجماع بين علماء المسلمين، تراهم لذلك يهرعون إلى تلقُّف كل رأي يخلِّصهم من هذه التعاليم ويسمونه اجتهاداً تحت مضلة الدعوة إلى التجديد مع أنه في الحقيقة تحريف وتبديد.
هذا الانحراف أدى عند بعض الناس إلى انحراف آخر أخطر منه، ففي سبيل قبول بعض التقاليد والعقائد العلمانية بدؤوا يتبنون معها ما يرونه لازماً لها من الأفكار والمعتقدات الغربية، ومن ذلك أنهم في سبيل إيجاد مكان للتعددية السياسية في الدولة الإسلامية صاروا يذمون كل من يظهر استمساكاً شديداً بما يعتقد أنه الحق ويقولون لا أحد غير الله تعالى -الذي يسميه بعضهم بالمطلق- يمتلك الحقيقة.
فكأنهم يقولون إنك لكي تعترف بالآخر لا بد أن تعتقد أنه قد يكون على صواب وتكون أنت على خطأ. مع أن هذا يمكن أن يقال في مجال الأمور الدينية الاجتهادية، والأمور الدنيوية المبنية على الرأي، أما إذا قام الدليل الواضح على أمر ما أنه الحق، فلا مجال للتشكيك فيه سواء كان من أمور الدين أو من أمور الدنيا. وإلاّ كان معنى هذا القول الاعتقاد بنسبية الحقيقة، والقول بنسبية الحقيقة -في غير مجال العلوم الطبيعيةـ هو من أمراض الحضارة الغربية الخطيرة التي تعدُّ كثيرٌ من مشكلاتها الاجتماعية أعراضاً لها.
إن القول بنسبية الحقيقة هو الذي يجعل القيم الخلقية قيماً نسبية، فلا يجيز لذلك لإنسان أن يقول عن سلوك إنسان آخر إنه خطأ أو غير خُلُقي أو يذمه بأي نوع من أنواع الذم. ولذلك صاروا الآن يستبدلون بعبارة (الشذوذ الجنسي) عبارة (الميل الجنسي)، أي إن الرجل الذي يكون ميله إلى الرجال أو المرأة التي يكون ميلها إلى النساء هما كالرجال والنساء الذين يكون ميلهم إلى الجنس الآخر، لا فرق بين الميلين، لذلك ينبغي أن لا يكون هنالك تفرقة في المعاملة.
فيقال لهؤلاء هل معنى ذلك أننا في سبيل قبول ما يسمونه بالآخر ينبغي أن لا أجزم بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن القرآن كلام الله، وأن الشرك باطل ومذموم؟ هل يقول بهذا عاقل؟ ولكن هذا هو الذي يؤدي إليه القول بعدم امتلاك الحقيقة.
نعم إنه لا أحد غير الله تعالى يعرف كل الحقائق، لكن من نعمة الله علينا أن جعل لنا نحن البشر الناقصين سبيلاً إلى معرفة بعض الحقائق التي تهمنا والتي تعتمد عليها حياتنا، وجعل العلم بها والإيمان اليقيني بصوابها شرطاً في نيل مرضاته سبحانه {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، بل جعل اليقين بها شرطاً للدعوة إليه {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.
إن الإنصاف وعدم ظلم الناس عموما لا يلزم أن يكون مبنياً على شكي وارتيابي فيما عندي من الحق، بل يمكن أن أتحمل وأُحسِن إلى من يخالفني في محله وبشرطه وأنا موقن أنني على الحق وأنه على باطل. ألم يقل الله تعالى عن بعض الكفار: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}؟