فكما أننا نؤمن، ويجب أن نؤمن، أنه ليس ثمة مجتمع إسلامي متحضر، وآخر غير متحضر، ذلك أننا كلما استطعنا أن نسمو بمجتمعنا العربي إلى عزة الإسلام، نكون في غنية عن صفات الحضارة، ونعوت الطوباوية، فكذلك ومن باب الأولى حينما يذكر الإسلام، فلسنا في حاجة إلى أن نعمل نعرات التمييز المدخون، نميز بين الإسلام الوسطي، والإسلام غير الوسطي، ذلك أن الإسلام، ومتى صحّ أن يكون إسلاما، فهو دين وسطية واعتدال، فلا وكس في أحكامه، ولا شطط ولا طغيان في نظامه، ولا إخسار.
ووسطية إسلامنا الحق، لم تكن، ولن تكون، أمرا كسبيا، على اعتبار أنه ليس من قادر على إصباغ الأمور بالعدل والسوية غير الله، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا، وعلى اعتبار أن محاولة الإنسان ذي العقل التكليفي، إنشاء نظام متوازن، يحقق توازنه خارج منظومة الإرسال والتنزيل، قد باءت بالفشل الذر يع، كما أن وسطية إسلامنا الحق، ليست عتلة نروم من خلالها تحقيق التوازن، بين ما هو رباني، وما هو إنساني، وبين ما هو روحي، وما هو مادي، وما هو دنيوي، وما هو أخروي، وما هو من نور الوحي، وما هو من تحصيل العقل، كما أن هذه الوسطية، ليست هي ذلك العامل الذي يستطيع من خلاله البعض، تطويع النصوص إلى الحد الذي يمكن معه الحديث عن مسلم انتقائي، وإسلام وسطي، يوافق طبائع الناس، ويتماشى مع التوجهات العامة للمجتمع.
وذلك يغض النظر عن ماهيات هذه الطبائع، وغائية هذه التوجهات، حتى ولو جاءتا متفلتتين من عقال الشرع، متعارضتين مع حكمة عدالته الغراء، رائمتين تفصيل العلاقة بين الدين والتدين على مقاسات نحيلة، وقوالب معلولة، يصير معها الدين، وينتقل من مهمة التسامي بواقع الناس، إلى حيث مثله العليا، إلى عملية تسفيل هذه المثل، إلى دركة تبرير واقع الناس، حيث تتم عملية تطويع الحياة للدين، حياة أقل ما يقال في حقها، أنها في الغالب حياة، لم تساهم بإرادة شرعية في صنع كينونتها، وتأثيث سقف واردها، الذي تجاوز البضاعة المادية إلى ما هو وافد فكري، وفلسفي مستغرب هجين، كما أنه ليس من الوسطية في شيء، ولا من تجلياتها ما تعرفه الساحة الفكرية الإسلامية، من إصدارات “اجتهادية غير متخصصة، ولا مسؤولة”، همّها الأوحد، تفريخ الفتاوى التبريرية، التي يسعى أصحابها -وكم هم كثر- إيجاد مخارج فقهية، من شأنها إضفاء الشرعية على واقع معاصر غريب عجيب، وإلباس ما كان منه أجنبيا دخيلا، العباءة الإسلامية الأصيلة.
وكم من الظلم والخطأ، أن نستفتي الإسلام البريء باسم الوسطية، في مشكلات مستوردة، لم يصنعها هو، بل جرّها إلى حظيرته المتعالمون والمستغربون، ونطالبه قسرا وقهرا، أن يجود بالترياق، والعلاج التام الكامل لهذه الأوجاع، التي لم تكن معروفة في أسلافه وبنيه، فإن هو امتنع في غير موائمة، فصلناه إلى قطع غيار، ثم أعملنا بعض من أجزائه في غير مكانها، ولا جهازها، فمتى لم يحصل التجانس المطلوب؟ سلطنا عليه وعلى أهله سوط اللائمة، وسحبنا منه صفة الوسطية، ورميناه بالعجز واللامواكبة.
ولذلك فنسوة المجتمع المدني اللاتي قارعنا الرجل المتسلط الظالم لنفسه وزوجه، دارت رحى لومهن على مدونة الأحوال الشخصية الإسلامية، باعتبار أن فراغها من القيم الردعية، هو الذي أعطى لهذا السيد بمنطق نجيب محفوظ، هامشا من التسلط والتكالب، ناسيات أو متناسيات، بأن هذا السيد، تحكمه قوانين وضعية في باب المعاملات المدنية والجنائية، فهو إن تاجر واشتغل، أو حل وارتحل، دار سلوكه في تلك القوانين الوضعية القاصرة، وإن سرق، أو سافح، أو ولغ خمرا، أو قطع طريقا، ثم سلّط سوطه على اللواتي أوصانا الله ورسوله بهن خيرا، فإن تحاكمه أيضا سيكون إلى قوانين وضعية، لا تلبي، ولن تلبي المطلوب دينا ودنيا.
ولعل تسلمينا وبيقين، لا لغو فيه، أن الإسلام هو وحده الذي انفرد بميزة الوسطية، وخصيصة الاعتدال، دون غيره من الملل، والنحل المحرفة، والمتجاوزة بالنسخ المبارك، هو التسليم الذي يعطينا بهامش منضبط مجمل جامع مانع، أحقية وصفنا لإسلامنا الحنيف، ونعتنا لتراثه الحصيف، بأنه دين وسطية واعتدال، وهو كذلك، باعتبار أن اليهود والنصارى، كل منهما قد جانس الغلو والتقصير، فقد تميز اليهود بقتلهم الأنبياء بغير حق، وإسرافهم في جانب التحريم، وتأليههم لكل ما هو مادي، بينما كان النصارى، ولا يزالون منغمسين برسومهم في مطبه تأليه الأنبياء، والإسراف في هامش التحليل، وإلغاء كل ما هو مادي يخدم الحياة الإنسانية كنصيب معين على الحظ الأخروي.
كذلك كان إسلامنا إسلام وسطية واعتدال، بالنظر إلى ما حفلت به الفلسفات العقلية، التي سادت في أزمنة من التاريخ، فأراد أصحابها إخراج البديل، الكفيل بقطع الحبل الرصين بين مملكة السماء، وقضية الاستخلاف الأرضي، فكان أن فضح التاريخ بشكل لا يقبل المزايدة، سقوط هذه النظريات العقلية المتعجرفة، بما فيها الفلسفة الإغريقية، التي تمثلت في فردانية أرسطو، وجماعية أستاذه أفلاطون، أو الفلسفة الفارسية، سواء ما تعلق منها بنظريات ماني الفردية المتطرفة، وما قابلها من أفكار متفسخة لفيلسوفهم مزدك، الذي نظر لشيوعية المال والنساء، واحكم بحكم هذا السقوط، لكل من حذا هذا الحذو، من نظريات ماركس، ودوت كفيل، وفختة، وداروين، وهلم جرا، من المبتدعات الرخوة الشاذة، الحائدة عن سبيل الله ورسوله، سبيل الوسط، الذي بدايته الحياة الطيبة، ونهايته نيل شرف الزحزحة من النار، والإدخال إلى حظيرة الفوز حقا وصدقا، فمتى ما حصل الميل والزيغ، وأراد المسلم الموحد، أن يعيش غير مخدوش الجانب العقدي؟
لزمه أول ما لزمه، أن يستنجد برصيد الشحنة النفسية المطمئنة، التي تجعله والوضع كما سلف، شاعرا بالإثم والضيق والتبرم، ولا شك أن هذا من بقايا الإيمان، بعضه أو كله، ولزمه ثاني ما لزمه، أن يرسخ قدم علاقته بربه، على مدرج الوسطية، ومقام الاعتدال، ولا شك أنها منطقة أمان، يشط معها بلبه ورسمه عن الخطر المحدق بالأطرف، حيث الغلو والتقصير، والمغالبة والإخسار، فمتى حصل له هذا المطلب النفيس، كان بمثابة الشمس في وسط النهار، مضرب مثال في الوضوح والوهجة، والقوة والحرارة، التي ينحجز معها كل ضار في أخجرة الضباب، وبقيعة السراب، ومن صدق عزمه في هذا الباب، وضح سبيله ولا بد.