آخر ما ورد في الحلقة الأولى من هذا المقال، قوله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”.
ومن ضمن ما يمكن استخراجه من هذا الحديث النبوي الشريف باختصار شديد ما يلي:
1- لا يولد أي إنسان وهو شاك أو مرتاب. وكيف يولد كذلك ما دام غير عالم أو غير عارف، في إشارة منا إلى رأيين متعارضين: رأي القائلين بالمعرفة الفطرية القبلية. ورأي القائلين بالمعرفة المكتسبة البعدية.
2- من الثوب تصنع ملابس ذات أشكال وألوان وأحجام. هذا الثوب الذي يحتفظ بخاصياته ما لم تمتد إليه يد الخياط عندما يعمل فيه مقصه. بحيث يتحول إلى مشروع جلباب أو سروال أو صدرية قابلة للتنفيذ، وحينها لم يعد مجرد ثوب. حتى وأن حقيقته لم تتغير كحقيقة الإنسان التي تلازمه من المهد إلى اللحد. نتحدث هنا عن التحولات والتغيرات التي لا تمس الجوهر، إذ أنها أعراض تحضر وتغيب، أو تظهر وتختفي!
3- تعامل الخياط مع الثوب، وتعامل الفخار مع الطين، والإسكافي مع الجلد. أشبه ما يكون بتعامل الأبوين مع الطفل من بعض الوجوه، ذلك أن الطفل مادة خام حية متحركة ومتطورة، وذات روح قبل كل شيء. في حين أن الثوب والطين والجلد مواد خام جامدة تحت السيطرة التي لا يتوفر عليها الأبوان المربيان الموجهان. إذ أن أمامهما، وفي حضنهما، وتحت رعايتهما مولود عاجز ضعيف. عليهما يعتمد –بعد الله– في كل شيء يتصل ببدنه وبنفسه وبعقله. فإليهما يرجع اختيار الديانة التي يرغبان في أن يشب أو يظل عليها حتى الممات. فقد يربيانه على الإسلام لأنهما مسلمان. وقد يربيانه على اليهودية لأنهما يهوديان. وقد يربيانه على النصرانية لأنهما نصرانيان. إلى آخره. وقد يصيبان في تربيته وقد يخطئان. وقد يزرعان فيه من الفضائل ما يقدران عليه. وقد يزرعان فيه من الرذائل بسلوكهما المنحرف عن الجادة ما يطبع تصرفاته وينال من سلوكه أو من أخلاقه أو من فكره! مع التأكيد على أن الأطراف الأخرى قد تتدخل في تربيته وتعليمه: المدرسة، والشارع، والرفاق، ومختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية في الوقت الراهن.
وبكل بساطة، وبكل وضوح، نؤكد أن الشك الذي لم يولد مع الإنسان -لأنه من جملة ما يتم تعلمه – يتسرب إلى عقلية أي طفل. وإلى عقلية أية طفلة. حتى ولو لم يبلغا بعد سن الرشد الجسدي والعقلي. ودون أن ندخل هنا في التفاصيل. لدي حفيدة راقبتها في مرحلة مجرد الإحساس (الطفل يحس ولا يدرك). وفي مرحلة الإدراك الحسي. والآن دأبت على مراقبتها في مرحلة الإدراك العقلي. ولاحظت لمرات عدة. كيف أنها تشك. وفي بعض الأحيان أدفعها إلى الشك عن قصد، من باب حملها على التأني والتريث والاحتراز. وهدفي البعيد هو تقوية قدرتها على التمييز بين الصواب والخطأ، بعيدا عن التسليم بكل ما يقال لها أو كل ما تسمعه أو تشاهده!
وقد طرحت في بداية المقال سؤالا حول دور الشك أو وظيفته في العملية التعليمية المشتركة بين المعلمين والمتعلمين. ووجدت في حفيدتي مناسبة لتأكيد دوره فيها. كثيرة هي الأمثلة التي تضع المتعلمين الصغار أمام الشك وجها لوجه. فعلامة أكبر من (<). وعلامة أصغر من (>). تلزمان المتعلم الصغير بتقديم الإجابة الصحيحة التي يكافأ عليها بعلامة من علامات الاستحسان أو الاستهجان كتقييم من معلمه لما قدمه من إجابة أو من إجابات! وهو في بحثه عنها يحرص على وضع يده عليها بعيدا عن الخطأ. ثم إنه أثناء البحث، يجد نفسه بين نقيضين: بين رقم 9. ورقم 7 على سبيل المثال. فأيهما أكبر وأيهما أصغر؟ ومع مرور الوقت يتساءل لمرات عدة عما إذا كانت إجابته عن سؤال في هذه المادة المدروسة إجابة صائبة أم لا؟ بحيث يتطور الشك عنده جنبا إلى جنب مع تطور القدرة على طرح الأسئلة، وعلى التمييز بين المشكوك فيه وبين الموثوق به!
ثم تتسع دائرة لجوءه إليه خارج أسوار المدرسة أو المعهد أو الكلية. وذلك لأن تعامله اليومي مع مختلف عناصر المجتمع، يجعل الشك لديه وسيلة من ضمن وسائل التأكد مما ينتهي إلى سمعه! إنه يقابل الكذابين، والغشاشين، والمزورين، والساخرين والمازحين والجادين، والمغفلين. فيضطر إلى اتخاذ كامل الاحتياطات حتى لا يكون ضحية للتقليد من جهة. وللتصديق المجاني الرخيص المستساغ من جهة ثانية. نظير تصديق المشعوذين والسماسرة وشيوخ الفكر العلماني ودعاة الإصلاح المزعوم الغارقين في الضلال المبين حتى الأذقان!
ولا نحتاج هنا إلى التذكير بالأحكام الشرعية العملية الملزمة الناجمة عن الشكوك اللاإرادية التي تعتري متدينين كثر. والتي تقدمها لنا نظائر هذه الأسئلة: ما الذي على من يشك في أداء، أو في عدم أداء إحدى الصلوات الخمس؟ وما الذي على من شك في وضوءه وهو في صلاة الظهر أو في صلاة العصر قائما أو ساجدا أو قاعدا؟ وما الذي على من شك في إخراج زكاة الفطر أو في عدم إخراجها؟ إلى آخر كل الشكوك التي قد تتعرض للمؤمن أو يتعرض لها دون ما اختيار منه لما يجد في نفسه من تردد بين أمرين: أحدهما مقبول، وثانيهما مرفوض. بحيث يصبح التمييز عندها مقبولا بين شك يفرض علينا فرضا وكأنه من ضمن الحتميات التي لا نستطيع التخلص منها بسهولة. وبين شك نعي تماما بأننا نعتمده عن قصد لبواعث مختلفة، وفي مناسبات عدة. والبواعث هنا ما يحملنا خارجيا على الفعل أو على رد الفعل.. كحال من يرى الطعام أو يشمه فتتحرك شهيته إلى تناوله وشفاهه تتلمظ له! بخلاف الدافع الذي هو داخلي من صميم الخلقة ومستلزماتها كدافع الجوع والعطش والأمومة. فإن كان دافع الجوع يرمي إلى تناول الطعام والبحث عنه. فإن أية مأكولات تقع عليها أبصارنا عبارة عن بواعث. ففي الحالة الأولى نقع تحت القهر..ولكننا في الحالة الثانية مختارون حتى ولعابنا يسيل لبعض الأطعمة. يعني بعبارة أخرى أن الشك قد يفرض علينا فرضا وقد نختاره كاختيارنا لطعام أو لأطعمة بعينها. وسوف نرى في المقبل من الحلقات الصفحات ما يوضح لنا هذا الطرح الذي هو هنا تمهيد لما سوف يليه. وذلك من خلال محاولة إجابتنا على سؤالين طرحناهما قبل الآن: متى نشك؟ وكيف نشك؟