من معاني الإصلاح المطلوب منا: إصلاح القلوب وتعبيدها للإله علام الغيوب، بل ذلك أول الإصلاح وأساسه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب”(متفق عليه)، وإصلاح القلوب يكون بربطها بخالقها جل وعلا وتحقيق العبادات الواجبة عليها، وإن رأس ذلك كله الإخلاص الذي هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة فلا يشرك مع الله أحد غيره، وكذلك تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين.
ولما كانت القلوبُ كثيرةَ التقلب وعرضة لوساوس الشيطان ونزغاته؛ وجب على كل مسلم أن يجدد إخلاصه كما يجدد إيمانه، ومن غفل عن ذلك ابتلي بقسوة القلب، وفيما يأتي بيان لأهم أسباب تحصيل الإخلاص وتقويته في القلوب نسأل الله تعالى أن ينفع بها.
1- الدعاء
أول هذه الأسباب الدعاء والالتجاء إلى المولى عز وجل وإعلان الافتقار إليه، يقول القرافي رحمه الله: «اعلم يا أخي أن هذا المقام تشيب منه النواصي ولا يعتصم منه بالصياصي، فينبغي لك أن توفر العناية عليه والجد فيه مستعينا بالله فمن لم يساعده القدر لم ينفعه الحذر وقطع الكبر من استكبر.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر من يجني عليه اجتهاده
لكني أدلك على أعظم الوسائل مع بذل الاجتهاد وهو أن تكون مع بذل جهدك شديد الخوف عظيم الافتقار ملقيا للسلاح معتمدا على ذي الجلال مخرجا لنفسك من التدبير، فإن هذه الوسيلة هي العروة الوثقى لماسكها وطريق السلامة لسالكها».
2- الاستعاذة من الشرك والرياء
ويتبع الدعاء التعوذ بالله عز وجل من الشرك ومن الرياء كما قال إبراهيم عليه السلام: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)، وهذا أخص من معنى الاستعانة، وهو يتضمن عدم الأمن من مكر الله، وعدم إحسان الظن بالنفس والاغترار بالحال.
3- تذكر رقابة الله تعالى
ومن أسباب تحصيل الإخلاص تذكر صفات الله تعالى الدالة على علمه الشامل، وبصره بالعباد وعدم خفاء سرائرهم عنه، وما يورث العبد مراقبة الله تعالى في جميع أقواله وأفعاله وأحواله. قال تعالى: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
4- تذكر عقوبات ترك الإخلاص الأخروية
ومنها تذكر عقوبات ترك الإخلاص الأخروية التي منها الفضيحة على رؤوس الخلائق، وأعظمها إبطال الأعمال يوم العرض والحساب، كما قال تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)، وقد قيل: “من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله” المدارج 2/91..
5- تذكر عقوبات ترك الإخلاص الدنيوية
ومن الأسباب أيضا تذكر عقوبات ترك الإخلاص الدنيوية ومنها: قلة التوفيق والإعانة، وفقدان البركة ولذة الطاعة، والمعاملة بنقيض القصد والفضيحة بين الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رائى رائى الله به؛ ومن سمع سمع الله به» (متفق عليه)، وأعظمها الابتلاء بسوء الخاتمة، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ» (رواه البخاري).
6- محاسبة النفس ومراجعتها
ومنها الاجتهاد في مراجعة النفس وأن نتذكر أن النية تتقلب، فلا يكفي تصحيحها في يوم أو شهر أو سنة فلابد من مراجعة واتخاذ أسباب المراجعة، ويؤثر عن سفيان الثوري رحمه الله: «ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي».
7- الحذر من الاستدراج
ومما يساعدنا على المراجعة والمحاسبة أن نتذكر أن الله تعالى قد يؤتي الناس النعم والخير والعلم استدراجا لا رضا عنهم، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا) .
8- الخوف من مكر الله تعالى
ومن أسباب تحصيل الإخلاص أن نعلم أن الله تعالى يمهل ولا يهمل ويمكر بالماكرين ويفضحهم في الدنيا قبل الآخرة، قال حماد بن سلمة: «من طلب الحديث لغير الله مكر به».
10- إخفاء العبادة
ومن الأمور المساعدة على الإخلاص إخفاء العبادة التي يمكن إخفاؤها، قال تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
11- الإكثار من الصوم
ومنها المداومة على الصوم، فإنه مدرسة الإخلاص ومن العبادات الخفية التي تعلم صاحبها المراقبة وسلامة النية، وقد قال عز وجل في الحديث القدسي: “إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به” (متفق عليه).
12- الابتعاد عن قوادح الإخلاص
ومنها الاجتهاد في الابتعاد عن قوادح الإخلاص الظاهرة والخفية، من شرك ورياء وتزين للمخلوقين ومحبة رضاهم ومحمدتهم، ومن التزين بما ليس فيك ومحبة الحمد بما لم تصنع، ومن إرادة الدنيا بالطاعة والعبادة سواء كانت مالا أو رياسة أو جاها أو أي رغبة نفسية، قال تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
قال ابن القيم في الفوائد (149): «لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فاقبل على الطمع أولا فأذبحه بسكين اليأس؛ وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص».
13- النظر في فضائل الإخلاص
ومن أعظم تجديد الإخلاص وتثبيته النظر في فضائله الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة كقبول الأعمال وتحصيل حلاوة الإيمان ولذته، وتطهير النفس من الغل والحسد واكتساب السعادة وبلوغ منازل العالمين بلا عمل، وتحصيل عناية الله تعالى وحفظه وتوفيقه وتسديده وتكفير السيئات بل والكبائر أيضا، كما في حديث صاحب البطاقة، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ، فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ، فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ» (رواه الترمذي وابن ماجة وهو في صحيح الجامع).
والله نسأل أن يرزقنا إخلاصا صادقا وعملا صالحا.