مرتكز البناء الفكري للحضارة الغربية مبني على عالم المشاهدة وتنحية عالم الغيب، والاهتمام بشأن الدنيا وإلغاء عالم الآخرة؛ وحصر الدين في مجال الحرية الشخصية، كل ذلك لأن الإنسان عندهم هو مركز الكون.
وإذا كان الأمر كذلك فمن غير المستغرب أن ينطلق الفكر الغربي ومقلده العلماني العربي من فكرة حفظ حقوق الإنسان المتعلقة بالإنسان التي مصدرها الإنسان، وليس حفظ حقوق الله تعالى، ولا حقوق الإنسان التي مصدرها شرع الله تعالى إلا ما وافق منها ما مصدره الإنسان ومركزه الإنسان.
وبناء على ذلك فإن تقييد حرية الرأي لن يكون نابعاً إلا من الإنسان، وفيما فيه ضرر دنيوي على الإنسان، دون اعتبار لما يتعلق بالآخرة من نفع أو ضرر.
وباستقراء كثير من الدراسات الفكرية والقانونية الغربية والعربية العلمانية المتعلقة بحرية الرأي نجدها تضع قيوداً أربعة لحرية الرأي هي:
1- احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم.
2- حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق العامة.
3- التقييد بالقانون.
4- التقييد بالمصلحة.
وهذه القيود يغني بعضها عن بعض؛ فالتقييد بالنظام العام أو القانون أو المصلحة يغني كل واحد منها عن القيود الأخرى؛ لإمكان إدخالها فيه لكونها فضفاضة عائمة يصعب تحديدها.
القيد الأول: قيد احترام حقوق الآخرين وسمعتهم، وهو أهم قيد ولا يخلو منه إعلان أو ميثاق أو مؤلف عن حقوق الإنسان أو عن الحرية، حتى قال فيلسوف الحرية ميل: منع الفرد من الإضرار بغيره هو الغاية الوحيدة التي تسوغ استعمال السلطة على أي عضو من أعضاء جماعة متمدينة…فالإنسان غير مسئول أمام المجتمع عن شيء من تصرفاته إلا ما كان منها ذا مساس بالغير. (الحرية:29).
القيد الثاني: حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق العامة.
ففيما يتعلق بالأمن القومي لا يسمحون تحت ذريعة حرية الرأي لأعدائهم ببث آرائهم في أوساط شعوبهم، أو نشر ما يهدد الأمن.
وأما الصحة العامة فلا يمكن أن يسمحوا تحت ذريعة حرية الرأي بالدعاية لأطعمة أو أدوية مهلكة أو ضارة.
وأما الأخلاق العامة، فهي محل إشكال وتجاذب بين المفكرين والمشرعين والسياسيين مع اتفاقهم في الجملة على أن الحرية لا بد أن تقيد بها.
ومنهم من يدخل هذا القيد تحت الإضرار بالآخرين؛ لأن نشر ما يؤذي الآخرين من الأخلاق الوضيعة فيه أذى لهم واعتداء عليهم، كما يقرر جون ستيوارت ميل أن التصرفات المخلة بالحياء يعاقب عليها إذا ارتكبت علناً؛ لأنها تدخل في باب التصرفات المضرة بالغير، فيصبح تحريمها جائزاً. (الحرية: 157).
ومنهم من يدخله تحت النظام العام أو الخير العام، فيقلصون الحرية الشخصية أو الخصوصية لأجل هذا القيد، يقول أميتاي: إننا نعتبر من الآداب العامة ألا يصرخ الإنسان على الملأ كل ما يمر برأسه. (الخير العام ص:70).
وفي حماية الأخلاق يحظر قانون الصحافة الفرنسي في المادة (38) نشر أخبار وصور جرائم الأحداث للمحافظة على مستقبل النشء من عدوى التقليد.
كما يحظر نشر صور نوع معين من جرائم الدم أو القسوة أو الجرائم التي تتنافى مع الأخلاق؛ لما للصورة من تأثير ينطبع في الأذهان ويؤدي إلى انتشار العدوى. (الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر: 106).
القيد الثالث: تقييد حرية الرأي بالقانون: فالمقررون لحرية الرأي في أوربا يحدونها بالقوانين، يقول مونتسيكو في كتابه روح القوانين في حده للحرية: هي الحق في عمل ما تسمح به القوانين، ولو أن فرداً فعل ما تحرمه فإنه لن تكون هناك حرية. (الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر: 7).
القيد الرابع: المصلحة العامة؛ فهي قيد تقيد به حرية الرأي منصوص عليه في الإعلانات والمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان. ومن الأمثلة على التقييد الغربي بالمصلحة:
في سويسرا مُنع كتاب «بروتكولات حكماء صهيون» بناء على قرار محكمة بيرن بتاريخ 14مايو 1935، وهو في الخزانة الجهنمية التابعة لمكتبة المقاطعة العامة في لوزان، ولا يمكن مطالعته إلا بعد إذن من رئيس المكتبة، ولا يمكن تصويره أو استعارته خارج المكتبة. (حقوق الإنسان عند المسلمين والمسيحيين واليهود، د.سامي عوض الذيب: 50-51).
ولا يخفى أن السبب في ذلك قوة النفوذ الصهيوني في أوربا، وتأثير اليهود على كثير من المصالح الأوربية ومنها السويسرية.
وعلى إثر اعتداء الصهاينة على ما سمي بقافلة الحرية التي سارت من تركيا لإغاثة المحاصرين في غزة فقتل منهم عشرين برصاص الصهاينة طلب حاخام يهودي في حفل من عميدة صحفيي البيت الأبيض هيلين توماس أن توجه كلمة لـ”إسرائيل” فقالت: “على اليهود أن يرحلوا عن فلسطين ويعودوا من حيث أتوا”، وحين أبدى امتعاضه، وعدم تصديقه لما قالت سألها الحاخام: إلى أين يعودوا؟ فقالت: إلى الأوطان التي جاؤوا منها: إلى بولندا، ألمانيا، روسيا، الأرجنتين، أميركا، بريطانيا، فرنسا..” الخ.
فاهتز البيت الأبيض والسياسة الأمريكية عامة لقولها، واضطروها للاعتذار وتقديم استقالتها بعد أن سفه رأيها، وصودر حقها في التعبير وإبداء الرأي، وعوقبت عليه بالطرد والإبعاد رغم تاريخها ومكانتها.