هل الأصل هو تقييد الرأي أم إطلاقه؟!

دلت أدلة كثيرة على أن تقييد الرأي والحد منه هو الأصل في الإسلام، وأن إطلاقه هو الاستثناء، على عكس ما ساد في الفكر الغربي والناقلين عنه من العلمانيين وبعض المفكرين المسلمين، ومن الأدلة الدالة على ذلك:
أولاً: أن الباطل من الآراء؛ والشر من الأقوال؛ أكثر من الحق والخير فيها، وميزان الحق والباطل والخير والشر هو الكتاب والسنة، ودليل ذلك: أن المؤمنين في أغلب فترات التاريخ البشري كانوا أقل من الكفار، بنص القرآن: قال الله تعالى {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} (الصَّافات:71).
وكان هذا الحكم عاماً في التاريخ البشري بدليل الله قول تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} (هود:17) وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف:103)، وتكرر في ذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:67).
ولا يشك مؤمن في أن ما ينتج من الشر والآراء الباطلة أكثر من الحق والخير، وقد دلت الأدلة على هذه الحقيقة، ومنها:
قول الله تعالى {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (الأنعام:116). وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام:119).
وكثيراً ما تكرر الوصف القرآني في أكثر البشر أنهم لا يعقلون ولا يعلمون:
كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الأعراف:187). وقوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (المائدة:103) وقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (العنكبوت:63).
فإذا كان أكثر الناس لا يعقلون؛ ولا يعلمون؛ فإن ما يصدر عنهم من الآراء لن يكون حقاً ولا خيراً ولا صواباً، بل أكثره باطل وشر وخطأ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يسوغ أن نطلق الرأي، ونقول إن الإسلام يطلقه، ثم نضبطه بضوابط؟!
ناهيك عما يصدر عن المخطئين من أهل القبلة من آراء باطلة، وما يحدث في الأمة من بدع قولية وفعلية. وقد وردت أحاديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم تدل على افتراق هذه الأمة؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم: “إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعنى الأهواء- كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة” (رواه أحمد: 4/102، واللفظ له، وأبو داود 4597 والدارمي 2518).
فما نتج عن هذه الفرق الكثيرة من آراء وأهواء فارقت فيها الحق كلها آراء باطلة، وهذه الآراء أكثر مما مع فرقة الحق الواحدة من الحق.
وما قررته نصوص الكتاب والسنة يدل عليه الواقع البشري؛ فإن الشرائع والمذاهب الباطلة والأفكار الخاطئة؛ وما نتج عنها من كتب خرافية، وآراء كلامية فاسدة، أكثر مما كتب في مجال الحق؛ سواء فيما يتعلق بالدين أو الدنيا؛ إذ الفرضيات والنظريات التي لم تصح أكثر من القطعيات التي صحت؛ حتى في مجالات العلوم الدنيوية، وكل هذا الباطل مما يستثنى من حرية الرأي.
وإذا استثني كان المستثنى أكثر من المستثنى منه، وكان المخصوص أكثر من العموم، وانخرمت قاعدة حرية الرأي بكثرة ما خرج منها من أفراد الرأي، فانقلب الرأي في الإسلام إلى أن الأصل فيه المنع، والسماح بالرأي مخصوص من النهي العام، ومستثنى من المنع.
ولا يرد على تقرير هذا أن كثرة التجارب في العلوم الدنيوية -وأكثرها كان خطأ- هي التي أوصلت لكثير من الحقائق؛ لأن الآراء والتجارب في أمور الدنيا إما أن تئول إلى ما ينفع البشرية فهي وسيلة إلى خير فتكون من الخير المأمور به، وإما أن تئول إلى ما يضر البشرية فهي وسيلة إلى شر فتكون محرمة.
ومهما كانت كثرتها فلن تبلغ مبلغ الركام الضخم الذي أنتجته عقول البشر على مر القرون فيما يتعلق بالأمور الغيبية والدينية سواء كانت اعتقادية أم عملية في شتى الشرائع والمذاهب، وهكذا ما يتعلق بالأخلاق والسلوك.
هذا؛ ونظرة المفكرين الغربيين على العكس من ذلك؛ فالفيلسوف جون ستيوارت ميل يرى أن الصواب في هذه الحياة أكثر من الخطأ، كما يرى أن كفة الصلاح والاستقامة أرجح من كفة الفساد والعوج. (الحرية: 42).
فالاختلاف في تقدير ما يصدر عن البشر من حق وباطل، وخير وشر، وصواب وخطأ، هو الذي أدى إلى مخالفة ما يقرره الفكر الغربي لما جاء به الإسلام؛ ولم يفطن بعض الكتاب المسلمين الذين عالجوا قضايا الحرية لهذا الاختلاف الجوهري فوقعوا في الخطأ باتباعهم الغربيين في تقرير حرية الرأي.
كما أن الفكرة الغربية القائلة بعدم ثبات الحق والخير والصواب، وقولهم بنفي الحقيقة المطلقة، أو القول بتعددها، ينسجم مع تقريرهم في إطلاق الرأي، بخلاف ما تقرر في الإسلام من ثبات الحق والخير والصواب، وإثبات الحقائق المطلقة، ونفي تعدد الحق؛ لإيمان المؤمن بثبات ما دل عليه الكتاب والسنة.

ثانياً: إن طريقة القرآن هي تقييد الرأي، وجعل المباح منه مستثنى من المنع، وليس العكس، ودليل ذلك قول الله تعالى: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (النساء:114).
قال ابن عطية رحمه الله تعالى في تفسيره 2/212: “الضمير في نجواهم عائد على الناس أجمع، وجاءت هذه الآيات عامة التناول”.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في معنى (نجواهم) يعني: كلام الناس.
وقال السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره: أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون. وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه. ثم استثنى تعالى فقال: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}.

ثالثاً: أن نصوص الكتاب والسنة دلت على أن الأصل في الإسلام عدم إبداء الرأي إلا إذا كان خيراً وليس إطلاقه، والخير يعرف بنصوص الشريعة، خلافاً للفكر الغربي الذي جعل الأصل في الرأي الإطلاق ولا يقيده إلا بقيود المصلحة الدنيوية، والأدلة على أن الأصل في الإسلام عدم إبداء الرأي إلا إذا كان خيراً كثيراً، ويمكن تقسيمها إلى نوعين:
النوع الأول: الأدلة التي تفيد أن ألفاظ الإنسان تحصى عليه، ويؤاخذ بها في الآخرة؛ ليكون رقيباً على ما يقول، وهذا من أقوى القيود على حرية الرأي وأشدها: قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:18). وقال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} (الأحقاف:8)، وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (الزُّخرف:80)، وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (الانفطار:10-12).
قال ابن عاشور في التحرير والتنوير 26/303: «وإنما خص القولُ بالذكر لأن المقصود ابتداء من هذا التحذير: المشركون، وإنما كانوا يؤاخذون بأقوالهم الدالة على الشرك أو على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو أذاه، ولا يؤاخذون على أعمالهم إذ ليسوا مكلفين بالأعمال في حال إشراكهم… ولأن من الأقوال السيئة ما له أثر شديد في الإضلال كالدعاء إلى عبادة الأصنام، ونهي الناس عن اتباع الحق، وترويج الباطل بإلقاء الشُبَه، وتغرير الأغرار، ونحو ذلك».
وما ذكره ابن عاشور من الأقوال السيئة مباح في الفكر الغربي، ويندرج تحت حرية الرأي، ومن حق أي أحد أن يدعو إلى الشرك وعبادة الأصنام، ونهي الناس عن اتباع الحق، وترويج الباطل، وإلقاء الشبه، وغير ذلك!!

النوع الثاني: نصوص فيها أن الإنسان يحاسب يوم القيامة على ما ينطق به، مثل:
قول الله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النور:24). وقوله تعالى: {اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يس:65). وقوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية:29). وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (فصِّلت:20).
والرأي هو نتاج العقل، واللسان يبلغه وينطق به، والكلام من عمل اللسان وكسبه، فتشهد الجوارح الأخرى عليه بما صدر عنه من آراء.
وما كان هذا التخويف بأن الألفاظ تحصى على الإنسان، ويحاسب يوم القيامة بما قال -ولو كان مجرد رأي- إلا ليتحفظ العبد من إطلاق لسانه في الكلام، فلا ينطق إلا بخير.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من سُخْطِ الله لَا يَرَى بها بَأْسًا فَيَهْوِي بها في نَارِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ خَرِيفًا”. (سنن ابن ماجه 3970).
وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أو لِيَصْمُتْ…» (البخاري 6110، ومسلم 47).
وهذا الحديث من أبين الأدلة على أن الأصل الشرعي في الرأي هو التقييد وليس الإطلاق، خلافاً للفكر الغربي الذي يطلقه، ولمن وافق أهله من المسلمين.
قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى في قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/179: «لا ينبغي لك أن تتكلم إلا بما يجر مصلحة أو يدرأ مفسدة».
ولأجل تواتر الأمر بإمساك اللسان، والمحاسبة على الألفاظ، ذم العلماء الآراء في الدين، وكثرة التشقيقات والكلام، وسموا أهلها أهل الأهواء، وامتدحوا قلة الكلام، وحفظ اللسان، وحذروا من آفاته وألفوا في ذلك كتباً، وأفردوا فيه أبواباً؛ لكثرة ما جاء فيه من نصوص الكتاب والسنة. (انظر: حرية الرأي.. لإبراهيم الحقيل).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *