المعارك بين المنتسبين لإلى الحق ومقابليهم من أعوان الشر قائمة لا تزول سوقها ولا يجلس قائمها إلى قيام الساعة، والمغرب أحد أبرز ساحات المعارك الفكرية والثقافية. والعلمانيون ومجاوروهم الاشتراكيون والليبراليون ما لبثوا يرفعون رايات الحرب، ينوعون ألوانها وشعاراتها بتنوع مشاربهم وقدراتهم وأصولهم وأنسابهم الثقافية؛ فتارة إلى الشرق وإلحاده؛ وتارة إلى الغرب ومكره وعدوانه وظلمه. وفي مقابل ذلك لم يزل أتباع الحق يبذلون كل الوسع بما تيسر من إمكانات مادية ومعنوية لصد ضرباتهم.
وكنت دائما استغرب من طروحات العلمانيين في بلادنا ونوعيات شبهاتهم. وأستنكر أن تكون من صناعتهم حتى قرأت عن الاستشراق وحقيقته فعلمت أن هؤلاء تلامذة أولئك. فزال استغرابي وعلمت أن خير سلاح لرد عدوان بني جلدتنا بني علمان هو نفسه الذي اكتوى بناره المستشرقون على أيدي فرسان فضلاء فضحوا كيدهم ونبهوا على عوار أفكارهم.
وقد توفي المفكر -وكلنا مفكرون- محمد أركون الجزائري الجنسية وهو أستاذ كثير من وزراء المغرب وأعيانه وهو نموذج لتلامذة المستشرقين وأحد إنتاجاتهم الفذة وعداوته السوربونية واضحة في كتاباته ومحاضراته ولقاءاته. ولعلني أقف معه في بعض الحلقات.
وها أندا أبدأ في بيان حقيقة الاستشراق ومدارسه ورواده ووسائله وأهدافه وإنجازاته، ولي معه وقفات في حلقات أخرى إن شاء الله تعالى.
تعريف الاستشراق وحقيقته
أما الاستشراق فقد عرفه الدكتور محمود حمدي زقزوق بقوله: (الاستشراق يعني الدراسات الغربية المتعلقة بالشرق الإسلامي في لغاته وآدابه وتاريخه وعقائده وتشريعاته وحضارته)، وهذا من أدق وأجمع التعاريف التي وقفت عليها للاستشراق.
ولم يستعمل هذا اللفظ في صورته اللاتينية في أوروبا إلا في القرن الثامن في بريطانيا حوالي سنة 1779م وفرنسا سنة 1799م ثم أدرج مفهوم الاستشراق في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام 1838مDictionnaire de l’academie francais الذي كان ابتداء إصداره عام 1635م كما عند مكسيم رودنسون في فصل له في (تراث الإسلام-1/64).
مدارس الاستشراق العالمية وأصنافهم
وتتنوع مدارس الاستشراق بتنوع بلدان المستشرقين ودياناتهم وتخصصاتهم، فمنهم مستشرقون من المدرسة المارونية( ) اللبنانية أمثال نجيب العقيقي! وقد عد نفسه في كتابه (المستشرقون) مستشرقا أيضا واستغرب منه ذلك الدكتور محمود حمدي زقزوق، وذهب الدكتور مصطفى السباعي في (الاستشراق والمستشرقون) إلى أنه أظهر تمجيدا للمستشرقين في كتابه المذكور آنفا.
ومنهم (مرتزقة) وظفوا أنفسهم لخدمة الأطماع السياسية والاقتصادية لبعض الدول الغربية واشتهر منهم المستشرقون الإنجليز والفرنسيون والهولانديون والألمان ثم بعد ذلك الأمريكيون.
ومنذ انضموا إلى الحركة الاستشراقية بذلوا الوسع في تقويتها بكل الوسائل الممكنة، وكان منهم لادينيون ونصارى ويهود وهم شرهم وأقبحهم.
وقد استطاع المستشرقون اليهود خاصة أن يتخفوا خلف تشابك أسماء المستشرقين الأوروبيين قاصدين التمويه بعدم التميز لتوفير الغطاء الثقافي لعملهم في ضرب الإسلام وتشويه صورته، ولذلك يقل ذكرهم بيهوديتهم في الكتب التي عنيت بتتبع الاستشراق وأعيانه بالدراسة والتحليل والنقد.
ومن أولئك جولد تسيهر الذي استطاع التمكن من الصفوف الأولى لقوافل المستشرقين فيصير شيخا لهم وتصير لكتبه تلك الهالة الثقافية العلمية عند المثقفين الغربيين والمستغربين من بني جلدتنا!!
ومنهم مستشرقون عرب مثل عزيز عطية سوريال وهو مصري نصراني؛ كان أستاذا بجامعة الإسكندرية، ودرس بجامعات أمريكا وله كتابات عن الحروب الصليبية.
وفيليب حِتي اللبناني النصراني المتأمرك، كان أستاذا بقسم الدراسات الشرقية بجامعة برنستون وهو مستشار غير رسمي للخارجية الأمريكية ومجيد قدوري النصراني العراقي رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة جون هوبكنز في واشنطن كما في (الاستشراق) للسباعي.
وهناك تيار معتدل كما يقول محمود حمدي زقزوق دعا إلى محاورته كي يغلب جانبهم على الجانب الآخر من المستشرقين بتصحيح تصورهم ومفاهيمهم عن الإسلام.
ومن هؤلاء (فريديريك الثاني) حاكم صقلية ثم إمبراطور ألمانيا سنة 1215م وقد كان شغوفا بالعلوم العربية وكان الإسلام في بلده محترما مقدرا. فكان يشجع على ترجمة كتب العلوم العربية خصوصا الفلسفة والطبيعيات ثم أسس جامعة نابولي عام 1223م وجعلها أكاديمية لإدخال العربية إلى العالم الغربي.
وكان يتقصد التشبه بالعرب في لباسهم وهيئاتهم مما جعل البابا غريغوري التاسع يطرده من الكنيسة بتهمة تودده للإسلام والمسلمين. وقد مدحته المستشرقة الألمانية زغريد هونكيه في مقدمتها للطبعة العربية من كتابها المشهور (شمس العرب تسطع على الغرب) وجعلته مثالا للعقلية المتفتحة للمثقفين الألمان الذين تنتمي هي إلى طبقتهم.
وفي أواخر القرن السابع ظهر تيار عنده قدر مهم من الإنصاف والموضوعية ذكر منهم زقزوق: ريتشارد سيمون (Ritchard Simon) له كتاب (التاريخ النقدي لعقائد وعادات أمم الشرق) وكان معجبا بالثقافة والأخلاق الشرقية، وهادريان ريلاند (Hadrian Reland) أستاذ اللغات الشرقية في جامعة أوترخرت بهولاندا له كتاب (الديانة المحمدية) في جزأين باللغة اللاتينية وقد حرمت الكنيسة قراءته ومع ذلك ترجم إلى لغات أوروبية كثيرة.
وكانت نظريته قائمة على أن معرفة دين وأخلاق الشرقيين ينبغي أن يكون بعيون العرب لا بعيون المستشرقين. ومع ذلك فقد ظهر في بعض كلامه ميل إلى البوح بهدف الاستشراق وهو معرفة حقيقة الإسلام (السيئ جدا على النصرانية!!!) كما يقول لضربه وتسفيه شرائعه. وشبهه بالشيطان، وزعم زقزوق أن بعض إنصافه كان فقط ذرا للرماد في العيون وتقية!!
ومنهم مستشرقون أسلموا كمراد هوفمان وانظر [العقيقي (3/619) ومصطفى السباعي في الاستشراق] والأستاذ محمد أسد (ليوبولد فايس) النمساوي اليهودي مع تحفظ على بعض ما نسب إليه وكتب: (الطريق إلى مكة) وفي (الإسلام في مفترق الطرق) وكانت المرة الأولى التي أتعرف فيها على هذا الرجل عن طريق شيخنا محمد بوخبزة حفظه الله تعالى.
ومما يجدر بي ذكره أن الاستشراق لم يقتصر على تلك الدول التي ذكرت آنفا بل تخطاها إلى مستشرقين ناطقين باللغة الإسبانية، وإنما آثرت التنبيه على هذا لقربنا من إسبانيا واحتكاكنا بالثقافة الأسبانية زمن الاستخراب وإلى الآن لأسباب جغرافية واقتصادية واجتماعية! وسيأتي الحديث عن بعضهم في بعض حلقات هذه السلسة إن شاء الله تعالى.
إلى هنا أكتفي بما رقمته، على أمل أن يتابع قراء السبيل ما سأكتبه ليتبين لهم حقيقة الاستشراق ومده وما أنتج من استغراب في عقول العرب، وإفساد لنظرة الغرب وبعض المسلمين إلى حقيقة الإسلام. ونحن اليوم في مواجهة عنيفة ضد ما يحاوله الاستشراق وذيوله لتشويه صورة الإسلام الحقيقي، وتلميع صورة إسلام صنعوه على مقاس مصالحهم ويريدون له الرواج في سوق عقول المسلمين وهيهات!! وليس أفضل من التعرف على وسائلهم لإفسادهم وبيان مقاصدهم لفضحها.
وصحيح أن العمل الاستشراقي انكمشت مساحته لكنه شيخ متقاعد يعتمد على أجيال من المستغربين للقيام بما عجز عنه قديما مع كثرة إمكانياته.
والله الموفق.