..تناثرت الأعمدة الضاربة في الطول والعرض على صفحات جريدة “جمع حدث”، التي عمل أصحابها ما في وسعهم اللغوي وطاقتهم الفكرية المدخونة لتحذير المغاربة من خطر التطرف الأخضر، الذي استفاد بزعم هذه الأعمدة من أجواء الانفتاح الديمقراطي والمراجعة الدستورية، فأصبح ينتشر من جديد في صمت مرعب وعلانية تبني قواعد كانت قد هدت أركانها في الأيام السوالف
كادت أفئدة عسكر الإفراط وجند التفريط تسكت عن شنشنة نبضها، ففي ظل ما يعرفه المغرب المسلم من انفراج لا يخرج عن مراد الله الشرعي والكوني، انفراج عادت بفضل الله أو كادت تعود الكثير من الأمور إلى نصابها، تتحرك اليوم سخائم الاستغراب عبر بلبلة الألسن ومروج الضمائر، لتخرج مكنون الصدور في قوالب المنظور والمسطور، مكنون الغيظ الذي ما عاد يخفى على كل ذي لب وبصيرة مادامت حربها قد حققت لذويها هامشا من الجراءة والجسارة غير المجرمة في ظل عولمة القوانين والمواثيق العابرة للحدود المتسللة إلى الحصون الآمنة لواذا، واستدراكا من هذه السخائم تحركت الأقلام المأجورة وسال حبرها بغزارة..
ففي عدد السبت والأحد ما قبل الماضي؛ تناثرت الأعمدة الضاربة في الطول والعرض على صفحات جريدة “جمع حدث”، التي عمل أصحابها ما في وسعهم اللغوي وطاقتهم الفكرية المدخونة لتحذير المغاربة من خطر التطرف الأخضر، الذي استفاد بزعم هذه الأعمدة من أجواء الانفتاح الديمقراطي والمراجعة الدستورية، فأصبح ينتشر من جديد في صمت مرعب وعلانية تبني قواعد كانت قد هدت أركانها في الأيام السوالف، واليوم تعود لتؤصل للأحكام الدينية والوجوه الرمزية التي عادت إلى أرض الوطن، أو التي فك أسرها الداعية إلى الكراهية والراغبة في فرملة الانتقال الديمقراطي الذي تعيشه البلاد.
والحقيقة أن المرء وهو يطالع هذا الخرص يقف على حقيقة البرزخ الذي صار بين كل منتسب لهذا الدين العظيم انتساب حق لا إفراط فيه؛ وصدق لا تفريط معه، وبين هذه الشرذمة من الذين يبغونها عوجا والذين لن نبالغ إذا لخصنا فلسفتهم الحداثية في عبارة “خير الهدي هدي أوربا وأمريكا”، والذين وإن أقروا لله بكونية الخلق أنكروا عليه سبحانه وتعالى شرعية الأمر، مع أنه جل جلاله يقول في محكم تنزيله:{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
إن هؤلاء يوشكون أن يقولوا باعتقاد وتقرير أن محمدا أرسل بالديمقراطية والعلمانية، وليس هذا من باب إلقاء الكلام على عواهنه أو من باب الرجم بالغيب، بل بيننا وبين المنكر والمعترض الرجوع إلى حيز محبورهم، ذلك المحبور الذي بات همّه أن يسوق الناس صوب الرذيلة، ليتسبب في قطع حبل المشيمة بين جسد الأمة وكيانها الروحي، وإعادة التأصيل لحكامة الإنسان واستخلافه في الأرض على قواعد قشيبة؛ زينتها الحداثية، وحرمتها العلمانية، تفوق حرمة المقدس التقليدي بزعمهم؛ حرمة متى ما انتهك منها خط واجهة قامت قيامة بيت الحكمة وجمعيات حقوق أي نفس منفوسة بدءا بالبعوضة وإنتهاءا بالفيل، اللهم باستثناء نسمة تتحرك بقيد وقيود؛ نسمة المسلم المؤمن بعقيدته المتشبث بدينه، الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.
والمؤسف أن سعار هذا التبذل الجامح صار يقودنا في اتجاه الانهيار الكاسح تحت مسميات براقة، أقل ما يقال في حقها أنها قوالب لمعاني ملغومة، فالحرية مثلا في ظل سيطرة طاغوتية الحداثة والعلمانية، ليس لها إلا تجلي واحد؛ الفوضى التي يسعى الفرد في مناخها وغاية سعيه تحقيق تطرف فرداني يتجاوز الضروري إلى الكمالي إلى الشهواني إلى الغضبي؛ المتفلت من عقال الرادع الشرعي، وربما أو أكيد أنه سيتسبب بسعيه هذا في إلحاق الضرر بالأغيار، وإغراق الآخرين ضحايا حريته القذرة في لجة الضياع وضنك الحاجة المدقعة.
وعلينا بعد هذا المؤسف أن نقرر أنه وحتى وإن طاب لزمرة الحاقدين أن يتعرضوا لديننا بأساليب النبز الماكرة بغية النيل من صيته وسمعة المنتسبين إليه؛ انتساب صدق لا كذب، واعتناق مراهنة لا مداهنة، فيبقى بعيدا كل البعد أن تنجح لهم بغية، أو يفلح لهم مأرب، بل إننا بعد هذا المؤسف نخشى أن تصيبهم قارعة، فتذهب بريحهم كما ذهبت بالذين من قبلهم فصيرتهم أثرا بعد عين، وأبقت بعد ذكرى الصدود والإعراض شاهد البئر المعطلة والقصر المشيد، ويبقى إسلامنا العظيم بعد أن يطويهم لحد النسيان؛ دين خالد ميزته الأولى التمرد على جنس المنكر وباطله، والحيلولة بقهر وغلبة لاستئصال شأفة أذيال الغاسق وشروره، ومنعه من خدش مطالع الصبح المقبل؛ مطالع العزة والتمكين.
يبقى المطلوب من كل موحد وموحدة يؤمن بحقه العادل وفضله القويم، ويتذوق طعم انتسابه مذاق من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، أن يخرج عن نصاب انتسابه زكاة اللازم من التسمي بالإسلام والتحلى بالإيمان، فحينما ننتسب لهذا الدين العظيم، فإننا نلتزم كطرف مطيع ملبي في عقد شريف تنص أحد أهم بنوده وأشرف شروطه: أن حياتنا وبمجرد نبس شهادة الولوج المحمود قد صارت كلها رهن إشارة هذا العقد ومنافعه المتعدية
وفي هذا السياق يبقى المطلوب من كل موحد وموحدة يؤمن بحقه العادل وفضله القويم، ويتذوق طعم انتسابه مذاق من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، أن يخرج عن نصاب انتسابه زكاة اللازم من التسمي بالإسلام والتحلى بالإيمان، فحينما ننتسب لهذا الدين العظيم، فإننا نلتزم كطرف مطيع ملبي في عقد شريف تنص أحد أهم بنوده وأشرف شروطه: أن حياتنا وبمجرد نبس شهادة الولوج المحمود قد صارت كلها رهن إشارة هذا العقد ومنافعه المتعدية، مع تمام الرضى بطلبه والاستسلام لخبره الغيبي، حينها سيتحقق لنا كأفراد وجماعة الانتقال المنشود من مذلة الشر والجاهلية إلى معزة الكرامة والتمكين، وحينها فقط يمكن أن نتكلم عن شيء اسمه الحرية التي هي القدرة على الاختيار؛ ذلك الاختيار الذي يسمح للمرء المسلم بإمكانية نخل عناصر محيطه، فيشط بنفسه عن كل ضار ويقبل على كل صالح يلبي حاجات أمته المسلمة، والتي على رأسها علاقته مع خالقه كعبد حقيق به تقديم فروض الطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر.
وهو في ظل هذا الاختيار أو هذه الحرية متسامح متعاون مع غيره من الأضداد في دائرة المواطنة والمعاملات، شديد في كل ما من شأنه أن يشين عقيدته ويقدح في أصوله، فلا تسامح حينها في أصول مبنية على تقابل توقيفي، إذ ليس بعد الهدى إلا الضلال، وليس بعد الإيمان إلا الكفر، وليس بعد الوحي إلا الأساطير والغي، والمؤمن الصادق في انتمائه لا يرضيه ويسكت ضميره العقدي أن يحمل الهلال في رمزية انتسابه ثم يستدير بزاوية حادة ليعانق الصليب باسم التسامح الديني.
إن صدق الإيمان يبعث على يقين مفاده أن أي معركة بين الحق الذي يختلج في صدر المؤمن، والباطل الذي يعربد على مرمى حجر منه يقرر الله فيها حكمه الحاسم، مصداقا لقوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}، ولعل من جنس هذا النافع المشمول بوعد المكث والخلود؛ إسلامنا العظيم الذي متى التزمنا بسماحته واعتدال أحكامه، وأقمنا منهجه في نفوسنا بادئ الأمر، جاء الجزاء الوفاق ليخلص محيطنا ووطن المحيا والممات من شبهات التكفير وشهوات التعهير، وهما أصلان من أصول الفتنة، تتفرع عن كلاهما الأعطاب التي لا يعلم مدى تأثيرها السلبي استشرافا إلا الله ثم الراسخون في العلم، فاللهم جنبنا ونحن نأكل حب حصيد هذه الأرض الطيبة المعطاءة؛ الفتن ما ظهر منها وما بطن، آمين.