سلسلة: الاستشراق والاستغراب وجهان لعملة واحدة الحلقة الرابعة: لماذا الحديث عن الاستشراق الآن…! ذ. طارق الحمودي

قد يقول قائل: لم الحديث عن الاستشراق اليوم وقد مضى زمنه.. وانقضى أجله.. ولم نعد نسمع عن ذاك الاستشراق الذي تتحدث عنه؟

ولهذا الكلام وجه من النظر؛ فلا يخفى على أحد بعدما تصدى أهل العلم لبيان حقيقة الاستشراق وأهدافه في مؤلفات كثيرة فضحت المستشرقين وأظهرت مقاصدهم ووسائلهم؛ خفت صوته حتى كاد ينقرض لولا أنه غير من هيئته ولباسه؛ واستبدل وسائله بأخرى وبقيت روحه بادية لا ينتبه إليها إلا القليل من الموفقين..!
ولست ألوم من يقول: هل انتهى الاستشراق؟ وكيف ألومه وقد انتبه إليه ثلة من كبار المفكرين المسلمين مثل الأستاذ الدكتور علي النملة في محاضرته التي ألقاها ضمن أنشطة نادي أبها المنبرية عام 1425 هـ بعنوان: (الانطباعية في دراسات المستشرقين) فإنه عنون لفصل فيها بـ: هل انتهى الاستشراق؟ ومثله الأستاذ شوقي أبو خليل في (التسامح في الإسلامي) وقد نقلت منه بعض مادة هذه المقالة؛ وكذلك الأستاذ أنور الجندي رحمه الله كما في المرجع السابق وآخرون.
إن الاستغراب الذي تولى كبره كثير من العلمانيين والحداثيين في بلاد العرب ليس شيئا سوى فرع عن الاستشراق القديم باسم جديد وهيئة مختلفة ومشاريع أوسع وأدوات أكثر ومساحة من الحرية والتضليل أعظم. ولعله فرخ من فراخه أو تلميذ نجيب من تلامذته!
ولذلك أكتب هذه السلسلة من المقالات ..لأبين العلاقة التاريخية الحقيقية بينهما.
إن من خبث الاستشراق أنه أعلن عن انتهائه اسما؛ وأصر على استمراره معنى ومقصدا!
فقد أعلن مؤتمر الاستشراق التاسع والعشرون سنة 1975م أن المؤتمر القادم سيعقد باسم (المؤتمر العالمي للدراسات الإنسانية حول آسيا وشمال أفريقيا) بسبب التلوث الذي لحق مصطلح (مستشرق) كما يقول برنارد لويس؛ وقالوا: لقد ختمت جولة عظيمة ضخمة بدأت بعد احتلال الجزائر سنة 1830م وامتدت على مدى مئة وخمسين عاما. وقالت لوموند الفرنسية: إن هذا التحول يعد (موت الاستشراق) وقال جاك بيريك: انتهى زمن الاستشراق).
وقد عقد تحت هذا الاسم الذي مرَّ ذكره مؤتمران ثم تغير الاسم إلى (المؤتمر العالمي للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية). ثم استمر الأمر على تلك الحال.
ومع ذلك كرم اليهود الصهاينة المستشرق برنالد لويس؛ ولازال بعض المستشرقين يركزون اهتمامهم ودراساتهم على القضية الفلسطينية خدمة للصهيونية ودعما لها!
ويتحول الاستشراق إلى مرتزق وأدوات كذب وتزوير في يد الصهاينة بعد خبرة طويلة فيهما!
ولذلك؛ فلا يستغربن أحد دندنة الكتاب في هذا الموضوع؛ فالنار لم تنطفئ فإن هبت ريح الفرصة اشتعلت؛ ودخانها دليل على وجودها على الأقل بمقاصدها ..دخان أعمى العيون وخنق الأنفاس.. دخان اسمه: (الاستغراب)، ولا يستغرب الجمع بين الاستشراق والاستغراب من عنده حد أدنى من معرفة الواقع الثقافي والفكري في زماننا، ولذلك قال أستاذنا الدكتور عيد الله الشارف أستاذ علم الفلسلفة والفكر الإسلامي والنفس وعلم الاجتماع بكليتي الآدب وأصول الدين بمدينة تطوان في كتابه (الاستغراب في الفكر المغربي المعاصر، ص:28) معلقا على جمع الدكتور مصطفى السباعي بينهما في (الاستشراق والمستشرقين): “والجمع بين المستشرقين والمستغربين في غاية المنطق والصواب.. إذ أصحاب الثقافة من المستغربين مدينون -في رؤاهم ودعاواهم واستنتاجاتهم- لأساتذتهم المستشرقين”، ثم نقل الدكتور كلاما نفيسا للأستاذ عبد العظيم محمود الديب من كتابه: (المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي) في وجوب الالتفات إلى نقد الفكر الاستغرابي فليراجع.
فلو قلت عن الاستغراب أنه كان أحد مقاصد الاستشراق لم أبعد..!
يقول المستشرق (هـ.ا.جب) في كتابه (وجهة الإسلام/ص214): (والتعليم أكبر العوامل الصحيحة التي تعمل على الاستغراب) ومن أمثلة المستغربين طه حسين الذي كان (يحاول تفسير التاريخ الإسلامي تفسيرا ماديا (الاقتصاد وغيره) في بعض كتبه متأثرا بالمستشرقين كبرنارد لويس وكايتاني؛ ومثله عبد الرحمن الشرقاوي في (محمد رسول الحرية)؛ وأحمد عباس صالح في مقالات (عن الصراع بين اليمين واليسار)؛ وعلي عبد الرزاق (الإسلام ونظام الحكم) حين أقر أن تغير التاريخ وتقدمه ناتج عن الصراعات الطبقية والخلافات بين التوجهات والمذاهب الفكرية؛ وحسين قاسم العزيز في (البابكيه) وتأثر عبد الجبار ناجي بنولدكه والسامر وكارلايل.
وقد وصف الأستاذ مصطفى السباعي طه حسين بتلميذ المستشرقين وواحدا ممن مثلوا دورا من أدوار العبودية الفكرية، ووصف كتابه (الأدب الجاهلي) بأنه تضمن ترديدا مخلصا لأراء غلاة المستشرقين المتعصبين ضد العرب والإسلام مثل (مرجليوث) الذي نقل آراءه كلها في ذلك الكتاب ونسبها لنفسه!!
وأشار السباعي إلى أن فصل (الحديث) من كتاب أحمد أمين (فجر الإسلام) سرقة لآراء المستشرقين وقد بين ذلك بتفصيل في كتابه (السنة ومكانتها من التشريع الإسلامي).
وأشار أيضا إلى أن كتاب (نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي) للدكتور علي حسن عبد القادر -دكتوراه في الفلسفة من ألمانيا ومدير المركز الثقافي الإسلامي بلندن سابقا- أنه ترجمة حرفية لما كتبه جولد تسيهر في كتابيه (دراسات إسلامية) و(العقيدة والشريعة في الإسلام) وذكر أن سبب تأليفه لكتاب السنة قصة وقعت له معه واصفا إياه بالمنصف مادحا حسن خلقه وفضله.
هذه مقدمة لمن أردا التوسع في البحث في هذا الموضوع الواسع والمتشعب؛ والله الموفق.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *